للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سمنود، وبيننا وبينها عشرات من الأميال، ولكن ماءك الطاغي نحر هذا المفيض حتى انحدر فيه مجراك كله، فلم يكن بين السماع والرؤية إلا ريثما جزموا المتاع وشدوا المطايا، ثم أدركهم فيضانك قبل الرحيل، فتركوا الأرزاق وطلبوا النجاة. فحمل الكبار الصغار، والطوال القصار، والنساء الأطفال، ومضوا يتحسسون الطرق وتحت الماء، ويتلمسون المصاعد فوق الارض، حتى بلغوا - وما كادوا يبلغون - ساحل نهر (شبين)، وهو على بضع دقائق من القرية، وهنالك وقف المهاجرون على الشاطئ العالي بين البحرين، يودعون بالنظر العبران قريتهم الهالكة، والماء يغيب الدور ويبتلع الشجر، حتى لم يبق ظاهرا منها الا شرفات بيت الله، وغرفات بيت العمدة. ثم تمزقوا في البلاد يطلبون المأوى عند ذوي القربى أو عند أولي المودة، حتى أنحسر الماء فعادوا، واستأنفوا عمارة القرية فعادت ثم لا يزالون يؤرخون الحوادث بهذه (الغرفة)، ويهولون في أحداث تلك الهجرة، ويستعدون كل عام لطغيان النهر، قبل أن يئون أوانه بشهر! وهكذا الطغيان يا نيل يفرق الآلاف، ويشتت الوحدة، ويوهن بين الأوداء أسباب المودة! يطغى الحكم كما طغيت يا نيل فيجرف السدود، ويتعدى الحدود، ويتخطى الحواجز. ثم يدور بالتجسس، ويفور بالإرهاب، ويقذف بالتهم، ويسخر قوى الدولة وموارد الأمة ومرافق الناس لسلطان أمره وطماح نفسه ونفاذ حكمه. وأصل الطاغية كان مثلك يا نيل فياض اليد فقدسه الناس، جارف التيار فاتبعه الشعب، ثم ناصرته شهوته الخاصة، وساعدته غفلة العامة، فرد أهواء النفوس إلى هواه، وشورى العقول إلى رأيه، وحدود القوانين إلى أرادته، وسطوة الجماعة إلى يده، ثم تفيض هذه القوى المتجمعة عن طاقة الفرد فيطغى، ويزيد السلطان المفرط على غرور الإنسان فيتأله، ويومئذ لا تسأل عن حدود الله كيف تطمس، ولا عن رسوم العدل كيف تدرس، ولا عن حقوق الناس كيف تسفه، ولا عن نظام الأمر كيف يتبدد، ولا عن جموح الأثرة كيف يبغى ويتحكم.

وهكذا الطغيان يا نيل يعطل منابع الخير، ويبدل طبائع الفطرة، ويقتل مواهب العقل، ويغمر بالظلام آثار العلم ودلائل العقل وشواهد الكفاية.

ويطغى الأدب كما طغيت يا نيل فلا يكترث للقواعد، ولا يعوج بالأصول، ولا يحفل بالمنطق، ولا يأبه للخلق، ثم يرغي بالبذاء، ويزيد بالهراء، ويطفح باللغو. وكان الأدب

<<  <  ج:
ص:  >  >>