للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقد لقي زرياب النعمة بمثلها وجزى المعروف بالمعروف، ولكنه قصد إلى ذلك من طريق غير مباشر، قصد إليه من طريق النصح والإخلاص للأندلس التي أصبحت له وطناً، وأهل الأندلس الذين أصبحوا أهلا له ومعشراً. فعكف على رفع مستوى الموسيقى الأندلسية وعلى النهوض بالمجتمع الأندلسي حتى يداني المجتمع الشرقي ببغداد وقد وفق فيما قصد إليه كل التوفيق.

يمكن القول إن زريابا نهض بالموسيقى الشرقية نهضة جديدة مطبوعة بطابعه وذلك بما أدخله على العود من إصلاح وتحسين، وبما استن من طرق جديدة في إلقاء الغناء وتعليمه. فقد أتخذ لنفسه وهو بالمشرق عوداً جعله على الثلث من وزن العود القديم، وصنع أوتاره من حرير لم يغزل بماء ساخن يكسبها أناثة ورخاوة، وأتخذ بمها ومثلثها من مصران شبل أسد (فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحدة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها). فلما كان بالأندلس زاد أوتار العود الأربعة المقابلة للطبائع الأربع وتراً خامساً يقوم مقام النفس من الجسد، فأكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة كما يروي المقري. وأتخذ مضراب العود من قوادم النسر بدلا من مرهب الخشب (وذلك للطف قشر الريشة ونقاءه وخفته على الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه). وأما من حيث إلقاء الغناء فقد رسم زرياب أن يبدأ في الإلقاء بالنشيد بأي نقر كان، ثم يؤتي في أثره بالبسيط ويختتم بالمحركات والأهزاج. أما مذهبه في تعليم الغناء فيقول المقري (وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلمه أَمرَه بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمسورة، وأن يشد صوته جدا إذا كان قوي الصوت، فأن كان لينه أمره أن يشد على بطنه عمامة فأن ذلك مما يقوي الصوت ولا يجد متسعا في الجوف عند الخروج على الفم فان كان ألص الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاثة أصابع، يبيتها في فمه لليالي حتى ينفرج فكاه. وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته يا حجام! أو يصيح آه! ويمد بها صوته، فأن سمع صوته بها صافياً ندياً قوياً مؤدياً لا تعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس، عرف انه سوف يَنجُبْ وأشار بتعليمه، وأن وجد خلاف

<<  <  ج:
ص:  >  >>