للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأوجاعها إلا طول مدة الذبح للمذبوح.

ولو كان للموت قطار يقف على محطة في الدنيا، ليحمل الأحباب إلى الأحباب، ويسافر من وجود إلى وجود، وكانت هذه الأم جالسة في تلك المحطة منتظرة تتربص، وقد ذهلت عن كل شئ، وتجردت من كل معاني الحياة، وجمدت جمود الانتقال إلى الموت - لما كانت إلا بهذه الهيئة في مجلسها الآن في شرفتها من قصرها؛ تُطل على الليل المظلم وعلى أحزانها. . .!

هي فلانة بنت فلان باشا وزوجة فلان بك. ترادفت النعم على أبيها فيما يطلب وما لا يطلب، وكأنما فرغ من اقتراحه على الزمان واكتفى من المال والجاه، فلم يعجبه الزمان فأخذ يقترح له ويصنع ما يقترح، ويزيده على رغمه نعماً تتوالى!

وكان قد تقدم إلى خطبة ابنته شاب مهذب، يملك من نفسه الشباب والهمة والعلم، ومن أسلافه العنصر الكريم والشرف الموروث، ومن أخلاقه وشمائله ما يكاثر به الرجال ويفاخر. بيد أنه لا يملك من عيشه إلا الكفاف والقلة، وأملاً بعيداً كالفجر وراء ليل لا بد من مصابرته إلى حين ينبثق النور.

وتقدم صاحبنا إلى الباشا فجاءه كالنجم عارياً؛ أي في أزهى نورانيته وأضوئها. وكان قد علق الفتاة وعلقته، فظن عند نفسه أن الحب هو مال الحب، وأن الرجولة هي مال الأنوثة، وأن القلوب تتعامل بالمسرات لا بالأموال؛ ونسي أنه يتقدم إلى رجل مالي جعلته حقارة الاجتماع رتبة، أو إلى رتبة مالية جعلتها حقارة الاجتماع رجلاً. . وأن كلمة (باشا) وأمثالها، إنما تخلفت عن ذلك المذهب القديم: مذهب الألوهية الكاذبة التي انتحلها فرعون وأمثاله، ليتعبدوا الناس منها بألفاظ قلوبهم المؤمنة؛ فإذا قيل (إله) كان جواب القلب: (عز وجل)، (سبحانه).

ولما ارتقى الناس عن عبادة الناس، تلطفت تلك الألوهية ونزلت إلى درجات إنسانية، لتتعبد الناس بألفاظ عقولهم الساذجة؛ فإن قيل (باشا) كان جواب العقل الصغير: (سعادتلو أفندم!)

نسي الشاب أنه (أفندي) سيتقدم إلى (باشا) وأعماه الحب عن فرق بينهما؛ وكان سامي النفس، فلم يدرك أن صغائر الأمم الصغيرة لا بد لها أن تنتحل السمو انتحالاً، وأن الشعب

<<  <  ج:
ص:  >  >>