للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقدمت مائتا الفدان مهرها (الطيني) العظيم بما تعبيره في اللغة الطينية: ثمن عشرين ثوراً، ومثلها جاموساً، ومثلها بغالاً وأحمرة، وفوقها مائة قنطار قطناً، ومائة أردب قمحاً، ثم ذرة، ثم شعيراً. والمجموع الطيني لذلك ألف جنيه، وعزي الباشا أنه مستطيع أن يقول للناس: إنها خمسة آلاف، اختزلتها الأزمة قبحها الله. . .!

ثم زفت (بنت الباشا) زفافاً طينياً بهذا المعنى أيضاً، كان تعبيره: أنه أنفق عليه ثمن ألف قنطار بصلاً، ومائة غرارة من السماد الكيماوي، كأنما فرش بها الطريق. . .!

وطفق الباشا يفاخر ويتمدح، ويتبذخ على الأفندي وأمثال الأفندي بالطين ومعاني الطين؛ فردت الأقدار كلامه عليه، وجعلت مرجعه في قلبه، وهيأت لبنت الباشا معيشة (طينية) بمعنى غير ذلك المعنى. . .

ومات الطفل؛ فردت هذه النكبة بنت الباشا إلى معاني انفرادها بنفسها قبل الزواج، وزادتها على انفرادها الحزن والألم؛ وألقت الأقدار بذلك في أيامها ولياليها التراب والطين.

ولج الحزن ببنت الباشا فجعلت لا ترى إلا القبر ولا تتمنى إلا القبر، تلحق فيه بولدها؛ فوضعت الأقدار من ذلك في روحها معنى الطين والتراب.

وأسقم الهم بنت الباشا وأذابها؛ فنقلت الأقدار إلى لحمها عمل الطين، في تحليله الأجسام وأذابتها تحت البلى

وكان وراء قصرها حِوَاء يأوي إليه قوم من (طين الناس) بنسائهم وعيالهم، وفيهم رجل (زبَّال) له ثلاثة أولاد، يراهم أعظم مفاخره وأجمل آثاره، ولا يزال يرفع صوته متمدحاً بهم، ويخترع لذلك أسبابً كثيرة لكي يسمعه جيرانه كل ليلة مفاخراً، مرة بأحمد، ومرة بحسن، ومرة بعلي. وأعجب أمره أنه يرى أولاده هؤلاء متممين في الطبيعة لأولاد (الباشوات). . . وهو يحبهم حب الحيوان المفترس لصغاره؛ يرى الأسد أشباله هم صنعة قوته، فلا يزال يحوطهم ويتممهم ويرعاهم، حتى أنه ليقاتل الوجود من أجلهم؛ إذ يشعر بالفطرة الصادقة أنه هو وجودهم، وأن الطبيعة وهبت له منهم مسرات قلبه، ذلك القلب الذي انحصرت مسراته في النسل وحده، فصار الشعور بالنسل عنده هو الحب إلى نهاية الحب. وكذلك الزبال الأسد.

ومن سخرية القدر أن زبالنا هذا لم يسكن الحِواء إلا في تلك الليلة التي جلست فيها بنت

<<  <  ج:
ص:  >  >>