للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ذكريات الصبى]

أول حب

للأديب حسين شوقي

كان أول حب سنة ١٩١٨ أثناء المنفى في إسبانيا. . كنا نقضي صيف ذلك العام بغرناطة في الغابة الجميلة التي تحيط بقصر الحمراء الشاهق، حيث كانت ثريا حظية الملك أبن الأحمر المنعمة المد لله تمرح بين النرجس والياسنت. وكنا نقيم في فندق شيد في الغابة نفسها حيث يستطيع الزائر أن ينعم بالراحة والسكونمع بقاءه بالقرب من ذلك القصر العربي المجيد، وكانت هذه الغابة التي غرست فوق رابية، تطل على مدينة غرناطة بمنظرها الرائع وضواحيها الفاتنة. . وكنا في أوائل فصل الصيف، فلم يحضر إلا قليل من السياح، فلم يكن بالفندق غير أسرة أحد كبار الضباط الأسبان وأسرتنا؛ فما لبثت الأسرتان أن تعارفتا بعد زمن قليل. . كان أهلي يقضون أوقات طويلة مع الضابط وزوجته يتحدثون عن جمال الطبيعة في هذا المكان: سكون الغابة، صفاء المياه التي تترقرق في الجداول الآتية من جبل (الشيرا) الذي يشرف كذلك على الحمراء وقد جلل الثلج رأسه صيف شتاء. .

أما أبي فقد وجد في الضابط سميراً أنيساً، لأن الرجل كان برغم تربينه الحربية واسع الاطلاع على الأدب والتاريخ. . كما كان يشارك والدي في توجعه على تلك المدينة العربية الأندلسية العظيمة التي أضاءت العالم الغربي حقبة من الزمن، حين كانيتخبط في دياجير الجهل والهمجية، ثم ما لبثت أن اختفت فجأة في فوضى الوجود. .

وكان هذا الضابط أسمر البشرة إلى حد يلفت النظر، وقد قال له أبي مرة إنه لابد أن يكون من أصل عربي، فأمن الضابط على قوله ذاكراً في شيء من الزهو أنه عربي من بني أمية الأمجاد كما تثبت ذلك شجرة نسب أسرته، إذ كان من النبلاء. .

أما أنا، وكان عمري إذ ذاك ثلاثة عشر عاماً، فما كنت أحفل ببني أمية ولا بغيرهم، بل كنت أقضي الوقت في الغابة أبحث عن فراشة جميلة أضمها إلى مجموعتي.

كانت تعاوني في مهمتي هذه بنت الضابط الصغرى، إذ كان له بنتان: إحداهما في العاشرة وكانت مع الأسف دميمة، ومع ذلك كنت أصطحبها في جولاتي خلال الغابة لافتقاري إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>