للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وفتح للعظائم والمعجزات أبوابها؛ حتى إنه ليجعل الخرافة الفارغة معجزة دقيقة، ويملأ الحياة بمعان لم تكن فيها من قبل، ويصبح سر هذا الحب لا ينتهي؟ إذ هو سر لا يدرك ولا يعرف.

أجهد جهدك يا صاحبي، فما هو قفصك الفكري ذلك الشعاع الذي يحسبك، ولكنه صقل النفس لتتلقى الأنوار، ولا بد للمرآة من ظاهر غير ظاهر الحجر.

قلت لنفسي: فما أشده مضضاً أعانيه! إن أمري ليذهب فرطاً. أكلما ابتغيت من الحياة مرحاً أطرب له وأهتز، جاءتني بفكرة أستكدُ فيها وأدأب. أهذا السرور الذي لا يزال يقع بين الناس هو الذي لا يكاد يقع لي. وهل أنا شجرة في مغرسها؛ تنمو صاعدةً بفروعها، ونازلةً بجذورها غير أنها لا تبرح مكانها. أو أنا تمثال على قاعدته؛ لا يتزحزح عنها إلا ساعة لا يكون تمثالاً، ولا يدعها حتى تدعه معاني العظمة التي نصب لها؟ وقالت لي النفس: ويحك! لا تطلب في كونك الصغير ما لي فيه؛ إن الناس لو ارتفعوا إلى السماء وتقلبوا فيها كما يسيح أهلُ قارةٍمن الأرض في قارةٍ غيرها، وابتغوا أن يحملوا معهم مما هناك تذكاراً صغيراً إلى الأرض - لوجدوا أصغر ما هنالك أكبر من الأرض كلها. فأنت سائح في سموات.

أنت كالنائم؛ له أن يرى وليس له أن يأخذ شيئاً مما يرى، إلا وصفه، وحكمته، والسرور بما التذَّ منه، والألم بما توجع له.

لن تكون في الأرض شجرةٌ برجلين تذهب هنا وههنا، ولكن الشجرة ترسل أثمارها يتناقلها الناس، وهي تُبدع الثمار إبداع المؤلف العبقري ما يؤلفه بأشد الكد وأعظم الجهد، مطلقة ضميرها في الفكرة الصغيرة، تعقدها شيئاًثم يعود عليها بالزيادة، ولا تزال كل وقت تعود عليها، حتى تستفرغ أقصى القوة، ثم يكون سرورها في أن تهب فائدتها، لأنها لذلك وُجِدت.

إن في الشجرة طبيعة صادقة لا شهوة مكذوبة، فالحياة فيها على حقيقتها؛ وأكثر ما تكون الحياة في الإنسان على مجازِها، وشرط المجاز الخيال والمبالغة والتلوين. ولكن متى اختار الله رجلاً فأقر فيه سراً من أسرار الطبيعة الصادقة، ووهب له العاطفة القادرة التي تصنع ثمارها - فقد غرسه شجرة في منبتها لا مفر ولا مندوحة. وقد يخيل له ضعف طبيعته

<<  <  ج:
ص:  >  >>