للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا الناقد الذي يتجرد من المحاباة وينظر إلى ما يقال لا إلى ما من يقول، ولا يحكم سوى عقله الصائب وخبرته الأدبية

ولكن الجاحظ الذي أخفق في هذا الوضع - وما أقل أن يخفق! - كاد يدلنا على هذا الناقد الذي يصح أن يعتمد عليه، ويركن في الأحكام الأدبية إليه، حينما تعرض لشرح موقف الجمهور في المفاضلة بين بليغين فذكر أن الناس في هذا ثلاثة رجال: رجل يعطى كلامهما من التعظيم والتبجيل على قدر ما لهما في نفسه وموقعهما من قلبه، ورجل يتهم نفسه فيسرف في اتهام من يعظمه خشية أن تكون منزلته عنده قد خدعته في أمره، فالأول يزيد في حقه لما له في نفسه، والآخر ينقصه من حقه لتهمته نفسه. أما الذي في استطاعته أن يقدر المعاني حق قدرها ويعطي للأشياء قيمتها الحقيقية فهو العالم الحكيم المعتدل المزاج القوي المنة الوثيق العقدة الذي لا يميل مع يستميل الجمهور الأعظم والسواد الأكثر

ولكن هل العلم وقوة المنة، والتجرد من الوهم كل شيء في الحكم الأدبي؟ أو بعبارة أخرى، هل من تتحقق لهم هذه الصفات تتشابه أحكامهم الأدبية، ولا تتباين آراؤهم الفنية؟

الحق أن هناك عوامل أخرى تعمل في تكوين الحكم الأدبي، وبقدر وجودها كاملة أو منقوصة تكون قوة الأحكام الأدبية وضعفها وهي: -

أولاً: الاستعداد الذاتي - فهناك فضائل في الإنسان يصح اعتبارها مواهب فطرية، كخصب القريحة وصفاء الذهن ودقة النظر ومرونة الطبع. فمن المؤكد أن بعض العقول تستفيد أو يظهر أنها تستفيد في أيامها الأولى أكثر من غيرها، كما يظهر أنها أكثر انتباهاً ويقظة، وأحفظ لما تستفيد من الجزئيات، وأقدر على تكوين كل منها، وعلى حفظها متفرقة كما هي، ثم أقدر على تهيئ نفسها للإجابة على مطالب الوجود الجديدة والحكم على المسائل المستحدثة، وآية أن هذه الصفات فطرية لا اكتسابية هو أنها قد تتهيأ للمتعلم كما قد تتهيأ للأمي، وقد يحظى بها المهمل كما قد يحظى بها المثقف، ولكن لا ننس أن هذا الاستعداد ليس صفة ثابتة كصلابة المعدن مثلاً، بل يعظم بالمران حتى أنه في استطاعة صاحب الاستعداد تقوية استعداده إلى درجة كبيرة تضؤل بجانبها حاله الأولى

ثانيا: النقل بأوسع معانيه - فقل من يستفيد من شعوره وتفكيره الذاتيين، ولكن معظم الناس يستفيد خبرته ممن حوله، وهذا النقل يبتدئ مع الإنسان من يوم ميلاده، حتى أن علماء

<<  <  ج:
ص:  >  >>