للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أرضُ سَوْء

فانطلق، حتى إذا نصفَ الطريق أتاه ملكُ الموت، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب؛ فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مٌقبلاً بقلبه الى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قَ. فاتاهم ملكٌ في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرْضَين، فالى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى الى الارض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة!

قال الشيخ: فهذا رُجل لما مشى بقلبه الى الله حُسبت له الخطوة الواحدة، بل الشبر الواحد؛ ولو أنه طوف الدنيا بقدميه ولم يكن له ذلك القلب، لكان كالعظم المحمولة في نعش؛ قبرها في المشرق هو قبرها في المغرب، وليس لها من الأرض ولا للأرض منها إلا معنى واحدٌ لا يتغير؛ هو أنه بجملته ميت، وأنها بجملتها حُفْرة

والانسان عند الناس بهيئة وجهه وحِلْيتِه التي تبدو عليهن ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنه الذي يظن به؛ وما هذا الجسم من القلب إلا كقشرة البيضة مما تحتها. فيا لها سخريةً أن تزعم القشرة لنفسها أن بها هي الاعتبار عند الناس لا بما فيها، إذ كان ما تحويه لا يكون إلا فيها هي؛ ومن تُبعدُ في حماقتها فتسأل: لماذا يرميني الناس ولا يأكلونني. . . . . .؟

إن هذه الأخلاق الفاضلةَ في هذا الانسان لا تجد تمام معناها إلا في حالة بعينها من أحوال القلب، وهي حالة خشوعه على وصفها الذي شرحته الآية الكريمة: (أَلَمْ يَأنِ للذين آمَنُوا أن تَخشَعَ قُلوبُهمْ لِذِكْرِ الله وما نَزَلَ مِنَ الحق.)

فالأخلاقُ الفاضلةُ محدودةٌ بالله والحق معاً، وهي كلها في خشوع القلب لهذين؛ فان من القلب مخارجَ الحياة النفسية كلها

قال الشيخ: وأنا منذ حفظتُ عن الحسن تأويلَ هذه لآية، واستَنَنْتٌ بها، مضيتُ أعيشُ من الدنيا في تاريخ قلبي لا في تاريخ الدنيا، وأدركتُ من يومئذٍ أنْ ليس حفظُ القرآن حِفْظَه في العقل، بل حفظُه في العمل به؛ فان أنت أثبت الآية منه وكنت تعمل بغير معناها، وتعيش في غير فضيلتها فهذا - ويحك - نسيانُها لا حفظُها. وقد كان قومُنا الأولون بمعانيه كالشجرة الخضراء النامية؛ فيها وَرَقُها الأخضر وزهرهُا وثمرها، وعلى ظاهرها حياةُ باطنها، فلما ثبتَ الناس على الشكل وحده، ولم يبالوا القلبَ وأحوالَه أصبحوا كالشجرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>