للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ضعاف النفوس، ولكنه لا ينال من ذوي النفوس القوية منالاً وهو على عادته يعمد الى أقوى شخصياته فيجعلها مناط فلسفته رامياً بذلك الى أن نأخذ الدنيا كما هي فنفرح بها إذا أقبلت في غير اغترار بها؛ ولا نأسى عليها إذا هي أدبرت. وإن فلسفته من هذه الناحية لترجع فلسفة الرواقيين الذين يريدوننا على أن نتجرد من العاطفة جملة، فلا نفرح ولا نحزن، ولا نغضب ولا نعتب. انظر كيف يصف الشاعر مصير الملك أفراسياب عندما قلب الزمان له ظهر المجن، وتجهم له وجه القدر، فآل أمره الى أن وقع أسيراً في يد رجل عابد فشد وثاقه واضطره الى أن يخاطبه بقوله (أيها العابد! ما تريد من رجل اختفى في مغارة ضيقة) فلما عنفه العابد على ما احتقب من أوزار قال (بهذا جرت على أقلام قضاة الله في الأزل، ومن المعصوم في هذه الدنيا الغدارة من الزلل؟) وإن مصير الملك دارا واغتيال عبديه له تقرباً بدمه الى الاسكندر ليجري مجرى حديث أفراسياب من حيث الدلالة على تقلب الدنيا، وهي تربنا الفردوسي جبرياً يرى أن الإنسان لا يملك لنفسه مع القدر نفعاً ولا ضراً

وإذا كان ذلك دأب الدنيا، فحليق بالعاقل أن يرفضها ويزهد فيها. والزهد في الدنيا هو الأصل الرابع من أصول فلسفة الشاهنامة الأخلاقي، والفردوسي لا يألو جهداً في صرف قلوبنا عن أن تفتن بالدنيا ولكن في غير اخلال بالواجب الذي يفرضه علينا وجودنا فيها. انظر إلى تصويره الحال المعنوية على الملك كيخسرو عندما انقبضت نفسه، وأزمع التخلي عن الملك، والذهاب في الأرض، فقد عهد إلى ابنه، وودع أكابر الدولة (ثم سار. . . وصحبه رءوس الإيرانيين. . . إلى أن صعد إلى جبل، فأقاموا عليه أسبوعاً، وخرج في أثره نساء الإيرانيين ورجالها زهاء مائة ألف نفس، يبكون ويضجون حتى طن بصياحهم وعويلهم السهل والجبل. ثم بعد أسبوع أشار الملك على الأكابر والسادات بالانصراف من ذلك المكان وقال: إن أمامنا طريقاُ صعباً لا ماء فيه ولا عشب، فانصرف دستان، ورستم وجوذرد، ولم ينصرف عنه الباقون، فسار الملك، وساروا معه حتى وصلوا إلى ماء، فنزلوا هناك، وقال لهم الملك: إذا طلعت الشمس غداً حان وقت المفارقة، فباتوا ليلتهم عند العين. ولما كان الثلث الأخير من الليل، قام الملك ودخل العين، واغتسل ثم ودعهم إلى إيران، ولما طلعت الشمس ركب الملك، وغاب عن أعينهم)

<<  <  ج:
ص:  >  >>