للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والفروسية، والبارودي كذلك رب سيف وقلم، فكان قلمه مسجلا لآثار سيفه، وقليل كان أمثال هؤلاء. وإلا فخبرني عن شعر البطولة والفروسية والحياة والقوة بعد، وأين الشعر الغنائي الذي صدر عن شعور بالعزة القومية في الأدب العربي؟ أليس عجيباً أن نرى شعر البهاء زهير وقد كان في أسمى منصب من مناصب الدولة وكان مشرفاً على الحروب الصليبية ومساهماً في تدبير شئونها لا يذكر لنا في شعره شيئاً من أغاني الفروسية، ثم ينصرف بكله إلى الغزل المائع. على حين أن الصليبيين خلفوا لقومهم أغاني وأشعاراً صليبية قوية، ولم يخلف لنا الأدب العربي في هذا الباب الا ما كان تافهاً ضعيفاً، لعل السبب في هذا ان المسلمين كان موقفهم في هذا موقف دفاع لا هجوم (وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا).

وبعد، فكل عاطفة من عواطف الإنسان (على كثرتها وتعددها) موضوع للأدب، وخير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة، فالشعر المتناهي في وصف ما يلاقي المحب من عذاب والذي يذوب رقة وحناناً ليس (في نظري) مؤسساً على عاطفة صحيحة كالذي في شعر العباس بن الأحنف وأمثاله، وهذا الشعر وإن أرضى الجمهور ولذ لهم هو في كثير من الأحيان أجوف، وهو في كثير من الأحيان نتاج عاطفة مريضة. وليس من الحق أن يبيع الإنسان عواطفه بهذه السهولة (والشاعر المجيد) هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبنيها على أساس عميق، أما إن هو تغالى في ذلك وأثار عواطف حادة لأسباب واهية كان أدبه أدباً خفيفاً ضعيف القيمة مهما استلذه الناس وأعجبوا به.

هناك عواطف حنان، وعواطف إجلال. وعواطف جمال وعواطف قوة، وهناك ما يثير البطولة، وما يدفع إلى المجد، وما يدفع إلى اللهو، وكلها صالحة للأدب، وكلها في نظر الأدب سواء وان اختلفت قيمتها في نظر الأخلاق، ونظر دعاة الاصلاح، فالأخلاقي يرى أن الأدب الذي يثير لذة حسية أقل رقياً من أدب يثير شعوراً أخلاقياً كالإعجاب بالبطولة، واحتمال الآلام في سبيل أعمال جليلة، وأرقى الأدب في نظرنا ما أحيا الضمير وزاد حياة الناس قوة.

وأغرب ما في الأمر أن أدبائنا الذين انتفعوا بالأدب الغربي وعملوا على نقله إلى الأدب العربي أفرطوا في نقل هذا النوع من الأدب المائع وفرطوا في نقل الأدب القوي، وسبب

<<  <  ج:
ص:  >  >>