للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ساعة مع الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك]

دقائق مجهولة من حياة الإمام محمد عبده

كانت نسائم الأصيل في مصر الجديدة قد أخذت تنفح جوها المحرور بالطراوة المنعشة حين غمزنا الجرس مستأذنين على الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك، وكان جوسقه الأنيق غريقا في سكون فلسفي حالم، وحديقته البهيجة ترف على جوانبها الأربعة بالجمال والعطر فتذهب عن صمته الانقباض وعن سكونه الوحشة، وكان كل شيء يقع عليه طرفك في الحديقة والدار يعلن عما وراءه من مزاج حكيم، وذوق فنان، ونفس شاعرة.

كان الأستاذ على عادته يستريض مع أرسطو في كتابه (الطبيعة) وهو السفر الثالث الذي يخرجه للناس من آثار المعلم الأول، وفي رأيه انه أجلّ كتب أرسطو وأدلها على سمو عبقريته وسر نبوغه. لقينا في البهو لقاء ذوي البيوتات الكريمة والأبهاء القديمة فسلّم في أريحية وحيا في هشاشة، ثم خيرنا بين مجلس الدار ومجلس الحديقة فاخترنا هذا، وجلس ثلاثتنا على كراسي قصيرة القواعد وثيرة المقاعد حول منضدة مستديرة فوقها مظلة صيفية على طراز ما يستعمله المصطافون على شواطئ البحار وفي فنادق الجبال، وجلس الأستاذ الحكيم قبالتنا على كرسي له ظلة كالعلبة المستطيلة تقي الجالس فيها وهجة شمس، أما كلبه الضخم الجميل فقد ذهب يتهادى في المماشي المزهرة، ومن حين إلى حين كان يعود ليداعب السامرين على قدر ما يفهم من الدعابة.

أخذ الأستاذ يطارحنا الحديث (على نحو ما كان يتحدث إلى تلاميذه صديقه أرسطو زعيم المشائين في مماشيه المظللة) بصوته النقي العذب، وجرسه العربي الواضح، وأدائه المتئد الموزون، ولهجته (الشرقاوية) التي ينثرها عمداً في خلال الحديث فتكسبه ظرفاً ورقة. ولطفي بك مسامر حلو النغمة، فكه اللسان، متفنن الحديث، متخير اللفظ، فلو رحت تكتب ما يقول لكان قريب الشبه مما تكتب. وبراعة الحديث صفة امتازت بها طبقته التي تأثر بها وأثر فيها من أمثال محمد عبده وسعد زغلول والهلباوي، فأنت في حضرتهم لا تشتهي الكلام لأن لذتك في أن تسمع، ولا تثير الجدال لأن همك في أن تستفيد. ومجلس لطفي بك يصدق الصورة التي رسمتها له في ذهنك قبل أن تلقاه من شهرته المستفيضة وأعماله المنشورة: فبديهته حاضرة وفكره نفاذ وبيانه أخاذ واطلاعه شامل ومنطقه مستقيم وهو

<<  <  ج:
ص:  >  >>