للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم تستسلم للرجل الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ ولم يدرس ولم يتعلم؟

قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئة السماء وأجرامها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يشقون الفجر ويطلعون الشمس؛ وأنا أرى أنه لا بد من أمة طبيعية بفطرتها يكون عملها في الحياة إيجاد الأفكار العملية الصحيحة التي يسير بها العالم، وقد درست المسيح وعمله وزمنه، فكان طيلة عمره يحاول أن يوجد هذه الأمة، غير أنه أوجدها مصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء العسير؛ حسبه أن يثبت معنى الإمكان فيه

وظهور الحقيقة من هذا الرجل الأمي هو تنبيه الحقيقة إلى نفسها، وبرهانها القاطع أنها بذلك في مظهرها الإلهي. والعجيب يا مارية، أن هذا النبي قد خذله قومه وناكروه وأجمعوا على خلافه، فكان في ذلك كالمسيح، غير أن المسيح انتهى عند ذلك؛ أما هذا فقد ثبت ثبات الواقع حين يقع؛ لا يرتد ولا يتغير؛ وهاجر من بلده فكان ذلك أول خطا الحقيقة التي أعلنت أنها ستمشي في الدنيا، وقد أخذت من يومئذ تمشي. ولو كانت حقيقة المسيح قد جاءت للدنيا كلها لهاجرت به، فهذا فرق آخر بينهما. والفرق الثالث أن المسيح لم يأت إلا بعبادة واحدة هي عبادة القلب، أما هذا الدين فعلمت من أبي أنه ثلاث عبادات يشد بعضها بعضا: إحداها للأعضاء، والثانية للقلب، والثالثة للنفس؛ فعبادة الأعضاء طهارتها واعتيادها الضبط؛ وعبادة القلب طهارته وحبه الخير؛ وعبادة النفس طهارتها وبذله في سبيل الإنسانية. وعند أبي أنهم بهذه الأخيرة سيملكون الدنيا؛ فلن تقهر أمة عقيدتها أن الموت أوسع الجانبين وأسعدهما

قالت مارية: إن هذا والله لسر إلهي يدل على نفسه؛ فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعث نفسه غير مبالية الحياة والموت إلا في أحوال قليلة تكون طبيعة الإنسان فيها عمياء: كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبر الأعمى. فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلت، منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العالية - فما بعد ذلك دليل على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسمو ذاتيته، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة

قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليل على أنك تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية!

فاستضحكتا معا وقالت مارية: إنما ألقيت كلاما جاريتك فيه بحسبه، فأنا وأنت فكرتان لا مسلمتان

<<  <  ج:
ص:  >  >>