للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إليها لولا أن أتاح الله لنا أولئك الحاسدين ينشرون فضل الهجرة كما تنشر النار طيب عرف العود.

وفي الحق قد كانت هذه الهجرة في ظاهرها نهاية أسيفة لمعركة حامية طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت، ولقي المسلمون فيها بأساً عاصفاً وزلزلوا زلزالاً شديداً. ولعل كُتاب السيرة النبوية لم يستوفوا ما في هذه الحرب المرة من تفاصيل ودقائق، ولم يتوسعوا في وصف ما تخللها من بأس وشدة، ولعلنا لو استطعنا أن نحيط إحاطة شاملة بحقيقة هذه المعركة لوجدنا فيها قصة فريدة لمعركة كانت من أشد ما عرف التاريخ صراعاً بين الحق والباطل، واصطداماً بين كلمة الله العليا وكلمة الكفر السفلى. لسنا نعرف من أمر هذه الحرب القاسية إلا ذلك الذي يكرره كتاب السيرة ويتناقلونه من أحاديث الصحيفة، وأحاديث التعذيب والإيذاء ونحو ذلك، ولكن الذي يدرس طبيعة هذه الحرب، ويحلل ظروف زمانها ومكانها، ويستقصي ما ورد في سياق الحديث عنها في القرآن وفي السنة، وفي كتب التاريخ لا يسعه إلا أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذه المعركة قد كانت عنيفة إلى أقصى درجات العنف، وقاسية إلى أبعد حدود القسوة، وأنها كانت أكبر محنة ابتلى بها المسلمون في صدر الإسلام، وكانت نهايتها أن تشتت المسلمون، وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. وخرج صاحب الدعوة ورفيقه عليهما السلام، كما خرج موسى كليم الله خائفاً يترقب (إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا) وهكذا كانت الهجرة نهاية أسيفة لمعركة طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت.

ثم كانت هذه الهجرة نفسها بداية سعيدة ناجحة لمعركة طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت، وفيها عاد الله سبحانه على المسلمين بالنصر مؤزراً (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله العليا والله عزيزٌ حكيم).

ليس يشق علينا أن يقولوا عن الهجرة إنها كانت هزيمة وكانت فراراً. ولئن كانت الهجرة هزيمة فلقد كان في هذه الهزيمة النصر كل النصر والفوز كل الفوز. ولئن كانت الهجرة عملاً من أعمال اليأس والتسليم، فلقد كان مع اليأس والتسليم أمل باسم، قضى الله أن يتحقق، وغلبة شاملة أراد الله أن تتم؛ ولئن كانت الهجرة هروباً وفراراً، فلقد أعقبها رجعة

<<  <  ج:
ص:  >  >>