للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والشهوة والمتاع كفيلة أن تغري النفس إغراءً يكون لها غلاً ووثاقاً، وليس شرك الدنيا الذي تطوقُ به النفوس تطويقاً من ذلك الضرب الهين الخفيف الذي تحطم قضبانه وسلاسله في سهولة ويسر ولكنه شركٌ عاتٍ قوي كثيفٌ يحوك حول السجين آلافاً من الحبائل والحوائل التي يتعذر منها الخلاص إن لم يستحل وإذن فهذا الجسد للروح بمثابة القفص للطير القنيص، لا تستطيع أن تغادره أو تجاوز حدوده إلا إذا أراد لها ذلك واضعها، ولكنه قفص على ما ضربه حولها من سياج منيعُ مشبكُ القضبان فيه من نوافذ ما يسمح للسجينة أن ترسل خلالها الفكر والبصر إلى أرجاء الكون، وما تلك المنافذ التي تتسلل منها الروح إلى أنحاء الوجود إلا الحواس من بصر وسمع وما إليهما، وإلا العقل تتقصى به أطراف الأرض والسماء.

حتى إذا قَرُبَ المسيرُ إلى الحِميَ ... ودنا الرحيلُ إلى الفضاء الأوسع

وغَدت مُفارقةً لكلِّ مُخلَّفٍ ... عنها حليفَ التُّرْبِ غيرُ مشيَّع

هكذا ارتبطت الروح بالجسد ارتباطاً مكيناً. حتى إذا دنت ساعة الرحيل وحان أجل الفراق لهذا البدن إلى حيث تنطلق في الفضاء الرحب الفسيح، وأخذت تقطع ما بينه وبينها من صلات وعلائق وأسباب، وهو تلك الكتلة المادية المخلفة المعطلة المطروحة بعد المفارقة تحت أطباق الثرى دون أن يلتفت إليه أو يعني بشأنه احتقاراً له وازدراء، بعد أن خلفته الروح وخلعته، نقول إذا دنت ساعة الرحيل وفارقت الروح جسدها. . .

هَجعتْ وقد كُشف الغطاءُ فأبصرتْ ... ما ليس يُدركُ بالعيون الهُجَّع

عندئذ يزول عنها حجاب البدن فينكشف الغطاء فتدرك ما كان يستحيل عليها إدراكه أيام اتصالها به، ذلك لأن الأرواح المتلبسة بالأجساد إنما تكون رقوداً هجعاً أو كالرقود الهجع لأنها إذ تكون عالقة بالأبدان تكون محجوبة عن الإدراك الذي تحصله النفوس المجردة كما يحتجب النائم عن إدراك ما يدركه اليقظان، إذن فالروح عندما تلقي الجسد وتطرحه تكون كأنما تكشف عن بصيرتها غطاء طالما حال بينها وبين مطالعة الرفيق الأعلى بما يغمسها فيه من عرضٍ مادي زائل باطل مصيره إلى الفناء، أما إذا فارقت البدن فقد خلصت من أغلالها وانحسر عن بصرها الغشاء فأبصرت أسرار الحق صافية خالصة وانكشف لها الغيب وأيقنت أنها كانت أثناء حياتها مع الجسد غافلةً راقدةً وقد تنبهت الآن واستيقظت.

<<  <  ج:
ص:  >  >>