للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الانتحار]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

حدث المسيب بن رافع الكوفي قال: بينا أنا يوماً في مسجد الكوفة، ومعي سعيد بن عثمان، ومجاهد، وداود الأزدي، وجماعة - أقبل فتى فجلس قريباً منا، وكان تلقاء وجهي؛ لا أمد نظري إلا انطلق في سمته ووقف عليه؛ وكنا نتحدث، فرأيته يتسمع إلى حديثنا؛ فلما تكلم سعيد، وكان خافت الصوت من علة به، وكنا نسميه الملة الصخابة - رأيت الفتى يتزحف قليلاً قليلا حتى صار بحيث يقع في سماعه حسيس نملتنا

وكان سعيد يقول: اجتزت أنا والشعبي أمس بعمران الخياط، فمازحه الشيخ فقال له: عندنا حب مكسور، تخيطه؟ قال: نعم، إن كان عندك خيط من ريح! فقلت أنا: فاذهب فجئنا بالمغزل الذي يغزل الهواء لنصنع لك الخيط

قال مجاهد: هذا ليس بشيء في تنادر شيخنا وما يتفق له؛ أخبرني إن رجلاً جاءه في مسألة، فدخل عليه البيت وهو جالس مع امرأته؛ فقال الرجل: أيكما الشعبي. . .؟ فأومأ الشيخ إلى امرأته وقال: هذه. . .!

قال المسيب: وضحكنا جميعاً، وأخذ نظري الغلام فإذا هو ناكس حزناً وهماً، وكأنه لا يتسمع إلينا ليسمع، بل ليشغل نفسه عن شيء فيها، فتتوزع خواطره، فيتبدد اجتماعها على همه، بصوت من هنا وصوت من هنا، كما يفعل المحزون في مغالبة الحزن ومدافعته، يشغل عنه بصره وقلبه وسمعه جميعاً، فيكون الحزن فيه وكأنه بعيد منه

فقلت في نفسي: أمر أمات الضحك في هذا الفتى وكسر حدته وشبابه. ثم تحولت إليه وقلت: رأيتك يا بني مقبلاً علينا كالمنصرف عنا؛ فما بالك لم تضحك وقد ضحكنا جميعاً؟

قال: إليك عني يا هذا. فأين مني الضحك وأنا على شفير القبر، وروح التراب مليء عيني في كل ما أرى. وكان حفرتي ابتلعت الدنيا التي أنا فيها لتأخذني فيها، وأنا الساعة ميت حي؛ رجل في الدنيا ورجل في الآخرة!

قلت: فأعلمني ما بك يا بني؛ فلقد احتسبت ولداً لي كان في مثل سنك وشبابك ولم ارزق غيره، فقلبي بعده مريض به، يتوسمه مفرقاً في لداته متوهماً أن وجوههم تجمعه بملامحه؛ فأنا من ذلك أحبهم جميعاً وأطيل النظر إليهم والتأمل في وجوههم، ولست أرى أحداً منهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>