للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

التجربة، ولكنه كان كذلك يجيد عرضها على الناس والدعاية لها فيهم. أما العلماء فاضطربوا واشرأبو للمزيد من أنبائه، وأما البسطاء فاغتبطوا بصورة الخمائر التي أحلها واضحة في أذهانهم، تلك الخمائر التي تصنع لهم الخمر الذي هو شرابهم الأول في فرنسا، ولكنهم كذلك ارتاعوا لما تصوروا تلك المكروبات المعفنة ترفرف بها أجنحة الهواء من فوق رؤوسهم في سكون الليل، فتبذر فيهم أسباب الموت، وتفتح لهم أفواه القبور

وأجرى بستور تجارب غريبة طالت سنوات. تناول قوارير ووضع في بعضها شيئا من اللبن، ووضع في البعض الأخر شيئا من البول، ثم غطسها مدة في الماء الغالي، ثم ختم رقابها الدقيقة في النار، ثم أختزنها عدة سنين. وأخيرا فتحها ليثبت إن اللبن لم يتخثر، وأن البول لم يتغير، وان الهواء الذي علاهما في القبابات أحتفظ بكل أكسجنه أو كاد، فلا مكروب ولا فساد.

ثم أعاد التجربة على اللبن والبول مرة أخرى، ولم يغل القبابات، بل أذن للمكروبات أن تنمو وتتزايد فيهما. فلما فتح القوارير لم يجد اكسجينها، فإن المكروبات استخدمته فاستنفذته لتحرق به مادة البول واللبن وتحللهما لتتغذى بها. وعندئذ بسط بستور جناحين عظيمين وطار في سماء الخيال، فتمثل هذه الأرض العظيمة ليس بها مكروب واحد، وتمثل حيوانها يموت، في جو مليء بالأكسجين، ولكنه أكسجين عاجز في غيبة المكروب عن أكسدة هذه الحيوانات والنباتات، عاجز عن حرقها وتحليلها وتطهير الأرض منها. سمع السامعون من بستور ذلك فراعهم ما سمعوا، وجاء الليل، فتمثلت لهم مدينتهم في الأحلام، وقد خلت شوارعها من وقعة قدم أو قرعة حافر، من كل مظهر من مظاهر الحياة، إلا جثث اموات، ورمما سدت الطرقات لما أعوزتها المكروبات. قال بستور: إن عجلة الحياة لا تدور بغير مكروب

ولم يلبث بستور أن جاءه السؤال الذي جاء البحاث قبله، جاءه وجها لوجه يتطلب الجواب بلا مراوغة أو تسويف. ولم يكن بد من مجيئه أما اليوم واما غدا. وهو نفس السؤال الذي جاء أسبلنزاني من قبله فأثار من الفكاهة بينه وبين خصمائه ما أثار.

هذا هو السؤال البسيط، المفرط في بساطته، هذا السؤال المحير المفرط في تحييره: من أين تأتي المكروبات؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>