للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولو نحن كنا مسلمين إسلام نبينا (صلى الله عليه وسلم) وإسلام المقتدين به من أصحابه - لأدركنا سر الكمال الإنساني؛ وهو أن يقر الإنسان في عالم نفسه ويجعل باطنه كباطن كل شيء إلهي، ليس فيه إلا قانونه الواحد المستمر به إلى جهة الكمال، المرتفع به من أجل كماله عن دوافع غيره؛ فنظر الإنسان إلى نقص غيره هو أول نقصه. والمؤمن كالغصن؛ إن أثمر فتلك ثمار نفسه، وأن عطل لم يشحذ ولم يحسد واستمر يعمل بقانونه

ولقد نشأت في مغرس كريم، وعلى صورة من الحياة تشبه صورة الثمرة الحلوة، اجتمع لها من طبيعة مغرسها ومرتبتها ما تتعين به من حلاوة ونكهة ومذاق؛ فلما عقلت وعرفت الناس بعد فجاريتهم وخالطتهم، رأيتني منهم كالتفاحة ملقاة في البصل. . . وكانت التفاحة حمقاء فزادت حمقاً، وكانت حدية فزادت حدة -، وظنت أن الحكمة قد مسخت في الدنيا وبدلت إذ خلقت البصلة بعد أن خلقت التفاحة؛ وما علمت الخرقاء أن الكمال في هذه الحياة مجموع نقائص، وأن للجمال وجهين: أحدهما الذي اسمه القبح؛ لا يعرف هذا إلا من هذا؛ وأن البصلة لو أدركت ما يريد الناس من معناها ومعنى التفاحة لسمت نفسها هي التفاحة، وقالت عن هذه إنها هي البصلة!

ولما رأت تفاحتي أنها عاجزة أن تجعل الشجر كله في مثل مرتبتها ومغرسها - قالت: إن الأمر أكبر من طبيعتي، ومادام سر الكون مغلقاً فلا تعريف له إلا أنه سر مغلق، وليبق كل شيء في طبيعة نفسه، فعلى هذا يصلح كل شيء ولو في نفسه وحدها

قال أبو محمد: ولكن بقيت وحشة الدنيا وجفوتها، إذ لم أكن اهتديت إلى عالمي، ولا تأكدت عقيدتي بنفسي؛ فكان كل ما حولي منبجساً في روحي بشره، وكانت الدنيا بهذا كالمتطابقة في رأيي على معنى واحد، وزادني أني كنت رجلاً عزباً متعففاً؛ وما أشبه فراغ الرجولة من المرأة بفراغ العقل من الذكاء؛ هذا هو العقل البليد، وتلك هي لرجولة البليدة! والمرأة تضاعف معنى الحياة في النفس، فلا جرم كان الخلاء منها مضاعفة لمعنى الموت؛ علم هذا من علم وجهله من جهل، فكنت أعيش من الكون في فراغ ميت، وكنت أحس في كل ما حولي وحشةً عقلية تشعرني أن الدنيا غير تامة؛ وكيف تتم في عيني دنيا أراها غير الدنيا التي في قلبي؟

وعرفت أن كل يوم يمضي على الرجل العزب المتعفف لا يمضي حتى يهيء فيه مرض

<<  <  ج:
ص:  >  >>