للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يزال فيها على الأرض كلمات من الجنة لا تقال هنا ولا تفهم هنا؛ بل محل الاعتراض بها حين يكون الإنسان خالدا لا يقع فيه التغيير والتبديل. ومن هذا كان خيال اللذة في الأرض هو دائما باعث الحماقة الإنسانية.

قال أبو عبيد: وذهبت أعتمل بيدي وجسمي على آلام من الفاقة والضر، ومن الخيبة والإخفاق، ومن إلجاء المسكنة وإحواج الخصاصة؛ فلقد رأيتني وإن يدي كيد العبد، وظهري كظهر الدابة، ورجلي كرجل الاسير، وعنقي كعنق المغلول، ويطلع قرص الشمس على الدنيا ويغيب عنها وما اعتمل إلا بقرص من الخبز، ولقد رأيتني أبذل في صيانة كل قطرة من ماء وجهي سحابة من العرق حتى لا أسأل الناس، ويا بؤسا لي إن سألت وإن لم أسأل

وما كان يمسكني على هذه الحياة المرمقة، تأتي رمقاً بعد رمق في يوم يوم - إلا كلام الشعبي الذي سمعته في مسجد الكوفة، وقوله فيمن قتل نفسه، فكان كلامه نورا في صدري يشرق منه كل يوم مع الصبح صبح لأيماني. ولكن بقيت أيام نعمتي الأولى ولها في نفسي ضربان من الوجع كالذي يجده المجروح في جرحه إذا ضرب عليه، فكان الشيطان لا يجد منفذا إلى إلا منها. وفقدت الصديق وعونه، فما كان يقبل عليّ صديق إلا في أحلامي من وراء الزمن الأول

قال مجاهد: والحبيب؟

فتبسم الرجل وقال: إذا فرغت الحياة من الذي هو أقل من الممكن، فكيف يكون فيها الذي هو اكثر من الممكن؟ إن جوع يوم واحد يجعل هذه الحياة حقيقة جافية لا شعر فيها، ويترك الزمن وما فيه ساعة واحدة معطرة. . والبؤس يقظة مؤلمة في القلب الإنساني تحرم عليه الأحلام؛ وما الحب من أوله إلى آخره إلا أحلام القلوب بعضها ببعض!

قال أبو عبيد: وتضعضعت لهذه الحياة المخزية وأبرمتني أيامها، وحملت في الميت والحي، ورأيت الشيطان لعنه الله كأنما اتخذني وعاء مطرحاً على طريقه يلقي فيه القمامة. .؛ وظهر لي قلبي في وساوسه كالمدينة الخربة ضربها الوباء فأعمر ما فيها مقبرتها؛ وعاد البؤس وقاح الوجه لا يستحي، فلا أراه إلا في أرذل أشكاله وأبردها؛ ولقد يكون البؤس لبعض الناس على شيء من الحياة فيأتي في أسلوب معتذر كالمرأة الدميمة في نقابها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>