للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

النقص المتحيف لجهة أخرى، وإنه رب عقل كان تاماً عبقرياً في أمور لأنه ضعيف أبله في غيرها؛ يُحسن في تلك ما لا يُحسنه أحد، ويُحكم منها ما لا يُحكمه أحد؛ ثم يغلط في الأخرى ما لا يغلط أحد فيه؟

قالوا؛ فجاشت العنز وفارت من الغضب فورة الجبار، وخيل إليها من عمى الغيظ أنها ذهبت بين الأرض والسماء، وأن زنمتها أمتد منها خرطوم طويل، وأن قرنيها أنبعج منهما نابان عظيمان؛ وقالت: ويحكم! خذوا هذه (العمامة) فاشنقوها؛ فأنها كما قالت؛ تقدمت إلينا بالرأي والحبل. . .!

وكان في العظاء ضعاف ومهازيل وجبناء ومأكولون لكل آكل؛ فتشبح لهم أن أنثى الفيل هذه. . . ستخلقهم فيلة إن هم أطاعوها؛ فإذا مردوا عليها فأنها من صرامة البأس بحيث تجعل كل ظلف من أظلافها جبلاً فوقهم كأنه ظله فتسوخ بهم الأرض. ثم أنهم إنخزلوا وتراجعوا وأخذت (العمامة) الصالحة فشنقت، وخمد الرأي من بعدها وانقطع الخلاف والدين والعقل الحر. . .؛ وأقبلت دولة العظاء على العنز تجرر أذيالها. . .

قالوا؛ واغترت الماعزة وأحست لها وجوداً لم يكن، وعرفت لنفسها وهي ماعزة نباهة شأن الفيل القوي، فلجت في عمايتها وكفرت بجنسها، وقالت: لم يخلقني الله فيلةً وخلقت نفسي؛ فأنا لا هو. . .

وثبت عندها أنها ليست بعنزٍ وإن أشبهتها كل عنز في الدنيا؛ وذهبت تقلد وتعيش على مذاهب الفيلة بين العظاء؛ فإذا مشت إرتجَّت وتخطَّرت كأنها بناء يتقلقل، وإذا إضطجعت أنذرت الأرض أن تتمسك لا تدكها بجنبها. . .!

ومر ذلك الفيل بهذا الخراب مرةً أخرى، فلاذت العظاء كلهن بالفيلة. . . وتأهبت هذه للقتال وتحصفت في المبارزة والمناجزة. . . والمعانزة فنصبت قرنيها، وحركت زنمتها، وطأطأت، وشدت أظلافها في الأرض، وثبتت قوائمها، وصلبت عظامها، ونفشت شعرها، وتشوكت كالقنفذ، وأصرت بكل ذلك إصرارها؛ وكانت عنزاً نطيحة منذ كانت تتبع أمها وتتلوها، فكيف بها وقد تفيلت. . . .؟

ثم إنها ثبتت في طريق الفيل ليرى بعينه هذا الهول الهائل. . . فأقبل، فمد خرطومه، فنالها به، فلفها فيه، فقبضه، فرفعه، فطوحها، فكأنما ذهبت في السماء. . .!

<<  <  ج:
ص:  >  >>