للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وضيق النظر إلى وليد الحضارة المعقدة والجو الخانق، والفكر الراكد ودوران الفكر حول نفسه لا حول الطبيعة

في جو المدن لا يشعر الإنسان بالسماء إلا عند المطر، ولا بجمال الشمس ولا جمال القمر، ولا يلمس الطبيعة إلا إذا ساءت من شدة الحر أو شدة البرد! كل ما حوله من جمال جمال صناعي؛ قد استغنى بجمال طاقات الزهور عن الزهور في منابتها، واستغنى بثريا الكهرباء عن ثريا السماء، وبالحسن المجلوب عن جمال الفطرة وجمال الطبيعة وجمال الخلقة. وهيهات أن يتساوى منتحل وغير منتحل، فليس التكحل في العينين كالكحل!

إنما يشعر الإنسان بجمال الطبيعة يوم يخرج من المدينة إلى الريف، ويفرمن الحظر إلى البدو، فينكشف له الخلق بجماله القشيب، وتأخذ بلبه السماء في لا نهائيتها، والبحار في أبديتها، ويشعر شعوراُ قوياُ بأنه ذرة من ذرات العالم، وجزء صغير من أجزاءه، ضعيف بنفسه، قوي بكله، وأنه لاشيء يوم ينفصل عنه، وأنه نغمة من نغماته يوم يتصل به

لوددت أني خلعت نفسي في المدينة يوم فارقتها، فقد سئمت نفسي وسئمتني، ومللتها وملتني، وتمنيت أن تكون النفس كالثوب تخلعه حيناُ، وتلبسه حيناُ، ويبلى فتجدده، وتكرهه فتغيره - إذن لاستبدلت بنفسي - ولو إلى حين - نفساُ مرحة تستغرق في الضحك من الشيء التافه ومن لا شيء، ولا تبكي على ما فات، ولا تحمل هماُ لما هو آت

بل لتمنيت أن أكون كدودة القز تكون دودة حيناُ، ثم تكون فراشة حيناُ، أرشف من هذه الزهرة رشفة، ومن هذه رشفة، وأنشر جناحي في الشمس، أعيش في جمال وأغيب في جمال، كما تغيب الشمس الجميلة في الشفق الجميل، أو كما تغني النغمة الحلوة في رنات الآلات، أو كما تنداح الابتسامة العذبة في الوجه الصبوح، أو كما تندمج الموجة العظيمة في البحر العظيم! ولكن أنى لي هذا؟ ولو كان لشكوت وبكيت، فقد خلقت كما خلق المتنبي

خلقت الوفاً لو رجعت إلى الصبى ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا

وخرجت مبكراُ والناس نيام، أمشي على الشاطئ وأرقب الشمس في طلوعها؛ والشمس على الساحل أجمل من الشمس على غيره، فليس لها تلك القوة العاتية، ولا الحرارة القاسية، ولا الأضواء المعشية؛ فيها شيء من الوداعة واللطف والحنان!

هاهي ذي قد طلعت، فأخذت الحياة تدب في النفوس، تلقي أشعتها على البحر فينعقد منه

<<  <  ج:
ص:  >  >>