للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهذه النوادر كأنها هي أيضاً صنعت (حافظ) في شكل نادرة. فكان فقيراً، ومع هذا كان للمال عنده متمم هو إنفاقه وإخراجه من يده؛ وكان يتيماً، ولكنه دائماً متودد؛ وكان حزيناً، ولكنه أنيس الطلعة؛ وكان بائساً، ولكنه سليم الصدر، وكان في ضيق، ولكنه واسع الخلق؛ وتمام النادرة فيه أنه كان طوال عمره متبسطاً مهتزاً كأن له زمناً وحده غير زمن الناس، فتتراكم عليه الهموم وهو مستنيم إلى الراحة، ويعتريه من الجوع مثل مكسلة الشبع، ويسترسل إلى البطالة وكأنه مشمر للجد، ويستمكن الحزن منه في ساعة فيتهدد حزنه بالساعة التالي. . . .

رأيته في أحد أيام بؤسه الأولى قبل أن يتصل عيشه وكان يعد قروشاً في يده فقلت: ما أمر هذه القروش؟

قال: كنت أقامر الساعة فأضعت ثلاثين قرشاً ولم يبق لي غير هذه القروش الملعونة، فهلم نتعش. ودخل إلى مطعم كان وراء حديقة الأزبكية فزعمت له أني تعشيت. . . فأكل هو ودفع ثمن طعامه ثلاثة قروش. وكنت أطالع في وجهه وهو يأكل، فما أتذكره الآن إلا كما طالعته بعد عشرين سنةً من ذلك التاريخ حين دعاني (حافظ) إلى مطعم بار اللواء وقد فاضت أنامله ذهباً وفضة. وكان رحمه الله قد أصدر الجزء الثاني من (البؤساء) ورآني في القاهرة فأمسك بي حتى قرأت معه الكتاب كله فيما بين الظهر والمغرب؛ وركبنا في الأصيل عربة وخرجنا نتنزه أي خرجنا نقرأ. . .

وكان على وجه (حافظ) لون من الرضى لا يتغير في بؤس ولا نعيم كبياض الأبيض وسواد الأسود. وهذا من عجائب الرجل الذي كان في ذات نفسه فناً من الفوضى الإنسانية حتى لكأنه حلم شعري بدأ من أبويه ثم انقطع وترك لتتممه الطبيعة!

ومن نظر إلى (حافظ) على اعتبار أنه فن من الفوضى الإنسانية رآه جميلاً جمال الأشياء الطبيعية لا جمال الناس؛ ففيه من الصحراء والجبال والصخور والغياض والرياض والبرق والرعد وأشباهها. وكنت أنا أراه بهذه العين فأستجمله، ويبدو لي جزلاً مطهماً، وأرى في شكله هندسةً كهندسة الكون تتم محاسنها بمقابحها. وكم قلت له: إنك يا حافظ أجمل من القفر. . . . . .

أما هو فكان يرى نفسه دميماً شنيع المرآة متفاوت الخلق كأنه إنسان مغلوط في تركيبه. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>