للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[النهضة التركية الأخيرة]

للدكتور عبد الوهاب عزام

تتمة

بقيت هنات مما اقترف الكماليون لا أبغي إحصاءها، بل اكتفي بواحدة منها هي: لبس القبعة. والأمر في نفسه هين. ولكل أمة أن تتخذ من اللباس ما يلائم هواها، ويواتي حاجاتها، وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم؛ ولكن الكماليين اتخذوا القبعة عمارة لهم سيراً على خطتهم في تقليد الأوربيين وإتماماً لسننهم في محاكاتهم، وإمعاناً في هجر ما يميزهم منهم فيحرمهم شرف الفناء فيهم. ولو أن القوم فكروا ثم فكروا فرأوا أن لا مناص لهم من لبس القبعة ضرورة يقتضيها الزمان والمكان لا بدعة يمليها التقليد لكان لهم في العقل مساغ، وفي العذر متسع، ولكان عليهم مع هذا أن يفهموا الأمة بالدليل، ويجادلوها بالحسنى، حتى ترى أن القبعة لباس اختاروه لأنفسهم، لا ذلة ضربت على رؤوسهم، فقد عاشت الأمة التركية أحقاباً ترى هذه القبعة شعار مخالفي دينها، ولباس أعداء تاريخها. فلما أكره التركي في ثورة التقليد أن يضعها على رأسه أحسها ذلة طأطأ لها الرأس الأبي، وعاراً ذلت له النفس الكريمة. وحاولت رؤوس أن تنبذها فقطعت، وأرادت نفوس أن تستهجنها فقتلت. وإنك لتبصر رأس التركي الأصيد، وكأنه حمل من الذل ملء الأرض والتاريخ، وسيم من الخسف ما تنوء به عزته وعزة آبائه. وليس هينا على أمة أن تسام هذه الحطة، وتحمل على هذا العنت. وإن يكن بعض الترك لبس القبعة عزاً وفخاراً، فقد لبسها معظمهم خزياً وشناراً، تنطق بذلك أساريرهم وتبين عنه عيونهم؛ ولو أن القوم، إذ رأوا رأيهم، أخذوا به النشء الصغار، وخيروا فيه الكبار، لهان الأمر بعض الهوان. تصور الشيخ أبن السبعين أو الهم التسعين قد شابت لحيته في الإسلام، ونبتت نفسه وترعرعت ثم ذبلت في كره القبعة، يكره على أن يختم حياته بها، ويتوج شيبته بسوادها. وانظر ذلك الشيخ الجليل الذي كان يدرس العربية في جامعة استانبول فقيل له: البس القبعة وانزع العمامة. قال: أعانوني وعدوني من رجال الدين. قالوا: فاخرج من الجامعة إن لم يكن لك بد من عمامتك. فخرج منها وخلفه فيها معلم ألماني، فكان يأخذ عنه علم العربية ويعلم الطلبة، وكفى الله الطلبة عمامة الشيخ وعلمها، وأسعدهم بقبعة الألماني

<<  <  ج:
ص:  >  >>