للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبينا هو في جده وكده، وحزمه وعزمه إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر الدنيا وشؤونها، والنعيم والبؤس والشقاء والهناء وسمع قول المتنبي:

ولا تحسبن المجد زقا وقينة ... فما المجد الا السيف والطعنة البكر

وتركك في الدنيا دويا كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر

فهزئ به وسخر منه، واستوطأ مهاد الخمول ورضي من زمانه بما قسم له، وبينا يأمل أن يكون أشهر من قمر، ومن نار على علم، يسافر في الشرق والغرب ذكره، ويطوي المراحل أسمه إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل ويردد مع الصوفية قولهم (ادفن وجودك في ارض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه) يعجب من يراه مجدا خاملا، ومعرفة نكرة، وعاملا مغمورا.

وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره، ويعدو طوره. ومتواضع ينخفض جناحه، وتتضاءل نفسه. يتكبر حيث يصغر الكبراء. ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتأله على العظماء حتى تظن أنه نسل ألا كاسرة ووارث الجبابرة ويجلس إلى الفقير المسكين يؤاكله ويستذل له، هو نسر أمام الأغنياء، وبغاث لدى الفقراء لا تلين قناته لكبير، ويخزم أنفه الصغير.

يحب الناس جملة، ويكرههم جملة. يدعوه الحب أن يندمج فيهم، ويدعوه الكره أن يفر منهم فحار في أمره، فامتزج الحب بالكره، فاستهان بهم في غير احتقار.

صحيح الجسم مريضه. ليس فيه موضع ضعف ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة. يشكو المرض فيحار في شأنه الطبيب فيحنق على الأطباء ويرميهم بالعجز، وما العاجز إلا جسمه لم يستطع أن ينوء بنفسه.

كذلك كان رأسه. مضطرب. مرتبك. كأنه مخزن مهوش، أو دكان مبعثر وضع فيه النعل القديم بجانب الحجر الكريم، يؤمن بقول الفقهاء: القديم على قدمه، ثم يدعو إلى التجديد. ويتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب أهل النشوء والارتقاء، ومذهب الاختيار بمذهب الجبر، وحب الغني بمذهب أبي ذر وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة قد أكلتها الأرضة، ونسج الزمان علها خيوطه، وأحدث الكتب الأوربية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكل من هذين ظل في عقله، وأثر في رأسه. يسره تأبط شرا في بداوته وصعلكته و (جوته) في حضارته وإمارته ويؤمن لشاعرية هذا وذاك. يسمع إلى الملحدين فيصغي إليهم، وإلى المؤمنين فيحن

<<  <  ج:
ص:  >  >>