للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يتسلل منه، ليعلن عن نفسه في أنحاء الوجود. وقد كانت الثغرة التي تدفق منها ذلك الفيض الشعوري هو الفن الجميل في ضروبه المختلفة من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وغيرها. إذ أتخذها الإنسان أداة للتعبير عما يحسه من شعور، وهذا الشعور الذي يلتمس طريقه إلى عالم التعبير في صورة فنية، إنما يكشف عن نفوسنا وما يدور فيها من إحساس. وبعبارة أخرى إن الفنون وسيلة لابراز مشاعر النفس الإنسانية ودون الأشياء المحسة التي تتعلق بها تلك المشاعر، وبذلك أتاحت للإنسان أن يسكب نفسه أمامه، فيراها ويلمسها، وليس له عن ذلك بد بحكم تكوينه، فهو حين ينظم قصيدة من الشعر أو يضرب على أوتار الموسيقى فان ذلك يوازي في قائمة الضرورات الإنسانية - الملبس والطعام -، ومن هنا كان الإنسان هو الحيوان الذي يعرف نفسه ويشعر بوجوده.

ولمّا كانت الآداب والفنون هي شخصيتنا تدفقت إلى العالم الخارجي في مختلف الأثواب، كان لا يصلح موضوعا للفن إلا ما يتصل بنفوسنا وينتظم في سلك مشاعرنا، أو تغذوه عواطفنا، فيكتسي الرضى أو السخط أو السرور أو الألم أو غيرها، وعندئذ يصبح جزءاً منا، يصح له أن يبرز في صورة فنية. فعلمنا أن الأرض تبعد عن الشمس كذا ميلا لا يصلح موضوعاً للفن لأنه لا يمس نفوسنا، أما منظر غروب الشمس فهو يثير فينا عاطفة ما (الإعجاب مثلاً) فيمتزج المنظر بنا، ويختلج في نفوسنا، ثم لا يلبث أن يسلك سبيله إلى التعبير. وهكذا كلما اجتمعت مشاعرنا حول شئ معين فإنها تجاهد في الإفصاح عن نفسها مستعينة في ذلك بالفنون، ولما كانت معظم الأشياء التي تصادفنا في الحياة تثير فينا لونا خاصا من العواطف، فالإنسان فنان في الكثير الغالب من نواحي الحياة. فهو يشيد دوراً فخمة لمسكنه وكان يكفيه كوخ خشن ضئيل، وهو يبني المعابد والمساجد الشامخة التي ترسل قبابها ومآذنها في الفضاء، لينفس عن عاطفته الدينية، وكان يكفيه حيز محدود في العراء لأداء فريضته، وهو يخطط المدن وينسق الحدائق ليرضي عاطفته الوطنية وهو يعني بأثاث منزله وجمال ملبسه إلى آخر دقائق الحياة. لماذا؟ لأنها تمس مشاعره فتصبح قطعة من شخصيته لا يسعه إلاّ إبرازهاوالإعلان عنها.

من ذلك نرى أن الفنون جميعاً هي الأداة التي يستخدمها الإنسان ليتمكن من صب الوجود نفسه. ثم يعود فيسكبها شخصية تنبض فيها الحياة، وقد اتخذت الفنون قوالب الجمال وسيلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>