للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ثمانية شهور، ولم تزل الحرب بينهما حتى تفرّق عنه عامة أصحابه، وخرج أهل مكة إلى الحجاج بأمان، ولم يصبر مع ابن الزبير سوى نفرٍ قليل ممن بايعوه على الموت دونه

وفي يوم عصيب، من أيام الحصار الرهيب، يدخل عبد الله على أمه أسماء، فيدور بينه وبينها حوار رائع، يعرض عليها حاله وما آل إليه أمر أصحابه، ويطلب مشورتها، فتبذل له النصح، وتحثه على الاستمساك بما ولاّه المسلمون، وأن يدافع عن حقه إلى آخر قطرة من دمهِ، وألاّ يقبل من عدوه خطة يصحبها الذلُّ، وتقول له في عبارة حماسية مؤثرة: (والله يا بنيّ لضربةُ سيفٍ في عزّ، خيرٌ من ضربةِ سوطٍ في مذلةٍ) وتلهِبه هذه النصيحة، وتثير نخوته، فيخرج إلى العدو في قلة من صحبه، وفي كثير من جَلَدِه وإيمانهِ، وقوة عزمهِ؛ وحينئذ نقرأ في جهاده واستبساله أروع صفحة للبطولة الكريمة، والدفاع عن الحقّ الهضيم، صفحة يتجلى فيها البلاءُ الحسن، والصبر الجميل والاعتماد على قوة اليقين، مع ضعف العُدّة والعدد، ووفرة العدوّ وإحاطته، وتمكنه من ناصية الموقف. ملك الحجاجُ عليه أبواب المسجد الحرام، وحاصره فيه، فبات يصلي ليلته، ثم أغفى قليلاً، وقام يصلي الفجر، ولما انتقل من صلاته أخذ يستعد للنزال ليرمي آخر سهم في كنانته، وليموت بعده شهيد الوفاء لمبدئه، ثم قال لمن معه: (يا آل الزبير! لو طِبتم لي نفساً عن أنفسكم كنا أهل بيتٍ من العرب! أما بعد فلا يرعكم وقع السيوف. . . غضوا الأبصار عن البارقة، ولا يلهينكم السؤال عني، فلا يقولنَّ أحدكم أين عبد الله!. . . ألا من كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله. .) وبعد أن بثَّ الحميَّةَ في قلوب من حوله، وألهبهم حماسة، حمل على عدوه بسيفين صارمين، يضرب بهما معاً، فيهزم الداخلين عليه من هذا الباب، ثم لا يلبث أن يتكاثر الهاجمون على الباب الآخر، فيصمد لهم، حتى يولوا الأدبار، فيوقع بهم، وهو يقول: (يا له من نصرٍ، لو كان له رجالٌ!!)

لو كان قرني واحداً أرديتُه ... أوردتُه الموتَ وقد ذكيتُه!

ولم يزل يضرب القوم بصارميه ويشتت شملهم، حتى قُذِف بحجرٍ ضخم أصابه بين عينيه فخرَّ صريعاً، وتكاثر الجند على البطل المضرَّج بدمهِ الحرام، في المسجد الحرام، واحتزُّوا رأسه ولم يرْعَوا فيه ديناً ولا رَحماً

وكان مصرع البطل الشهيد سنة ٧٣هـ بعد أن أدرك وطره وسلّم الناس عليه بالخلافة

<<  <  ج:
ص:  >  >>