للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[النقد والمثال]

للأستاذ أحمد الزين

كتبت إلي - أعزك الله، وأمتع الأدباء ببقائك - أنه قد بعد عهدك بمطالعة ما كنت أكتبه في الصحف من فصول في النقد، ممتعةٍ في حسن ظنك بأخيك، وبحوثٍ ضافيةٍ دقيقةٍ فيما تنظره عين رضاك عن صديقك، وقلت: إنها لامست موضع هواك، وحققت غاية مناك، وشفت من صدرك غلة لم يكن ليشفيها ما طالعت أو سمعت من فصولٍ غيرها في النقد مما ملئت به صدور الصحف والمجلات، وحشيت به بطون المؤلفات، وأفاض فيه أساتذة النقد الأدبي في الدروس والمحاضرات، إذ كان أكثرها بل كلها من إملاء الغرض ووحي الهوى، وليس للفن فيها من الحظ إلا بمقدار ما يبرر الناقد به تفضيل صاحبه على غيره، واتهام الآخر بالعي والقصور في نثره أو شعره؛ يغفلون الأذواق والعقول، ويحكمون النزعات والميول، ويتبعون القلوب على ما يعرفون من تقلبها، ويستلمون العواطف الخادعة على تحولها وعدم استقرارها؛ فتخرج بحوثهم مختلة السياق، مضطربة الآراء، لا تحمل قارئاً على احترامها، ولا باحثاً على الاعتماد عليها. فهي بقصائد المدح والهجاء، أشبهُ منها ببحوث الأدباء والعلماء، حتى إن الشعراء والكتاب أنفسهم لم يعودوا يأبهون لما ينشره هؤلاء النقاد من ثمرات قرائحهم، إذ كان نقدهم إما مدحاً تمليه مودة أو منفعة، وإما هجاءٌ تبعثهم عليه عداوة أو حسد، ولقد قلتُ مرة لبعض الشعراء المجيدين: إن فلاناً الناقد المعروف قد كتب فصلاً طويلاً في صحيفة كذا يثني فيه على بعض قصائدك ثناء لو قرأته لسررت به، وهششت له؛ وطفقت أطيل في ذكر ما كتب؛ فقال صاحبي: بعض هذا يا أخي، فما مدح هؤلاء مما أرجو، ولا نقدهم مما أخشى، فما أيسر الوسائل التي ينال بها مدح هؤلاء ورضاهم، وإن ثناءهم لأشبه شيء بالشهادة للميت حين يحمل إلى قبره، ويقال: (ما تشهدون في هذا الرجل؟) فيقول المشيعون: (صالح وابن صالح) ولعله كان على خلاف ما شهدوا به في حياته، وقد أراح الله البلاد والعباد بمماته، ولم تقتصر متابعة الغرض ومسايرة الهوى في النقد الأدبي على صغار النقاد في هذا البلد، بل شمل ذلك أساتذة النقد وذوى الكلمة الفاصلة منهم، ومن يرتقب رأيه في كل أثر فني، كما يرتقب المتهم حكم القضاء العادل الذي لا مرد له، ولا جدال فيه، فطغى على الجميع سيلُ الغرض، واندفعوا

<<  <  ج:
ص:  >  >>