للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عثمانية، والكوفة بعد استقرار الإمام بها علوية، والجزيرة الفراتية إما نصرانية وإما خارجية، لأنها مسكن ربيعة، وهم كما قال الأصمعي رأس كل فتنة؛ ومن ربيعة بنو تغلب الذين قال فيهم الإمام علي: (يا خنازير العرب والله لئن صار هذا الأمر إلي لأضعن عليكم الجزية). فكان الشعر العراقي صورة لهذه الحياة الثائرة المتنافرة؛ فهو قوي عنيف يكثر فيه الهجاء والفخر، وتتلون فيه العصبية القبلية ألواناً شتى من التحزب للمكان والعقيدة والجنس، وتتغلب فيه النزعات الجاهلية على التعاليم الإسلامية، وتغذيه نفحات بدوية وصلات أموية، فيزدهر وينتشر حتى يشغل كل لسان ويحتل كل مكان ويعبر عن كل مبدأ

والحجاز منبع الإسلام كان أشبه بينابيع النهر: يفيض منه الماء الصافي في سكون ورفق، حتى إذا بعد مجراه اعترضته الشلالات وتقسمته التيارات فتكدر نميره واشتد هديره، وتوزعته الجداول والأقنية، فبعضه في سباخ الأرض، وبعضه في الرياض، فروى بعضاً وأغرق بعضاً. انتقلت منه الخلافة والمعارضة والعلم إلى العراق والشام، وبقى هو كما كان وكما هو الآن يقبل المال والمعونة من كل قطر، واقتضت سياسة الأمويين أن يعتقلوا فيه شباب الهاشميين فلا يتركونه إلا بإذن، وسلطوا عليهم الترف، وشغلوهم بالمال عن الملك، وخلوا بينهم وبين الفراغ، وقد ورثوا مع ذلك عن آبائهم المجاهدين مغانم الفتح من أموال ورقيق، وفي أهل الحجاز ملاحة ظرف ووداعة نفس ولطافة حس وفصاحة لسان ومحبة لهو، فتبسطوا على النعيم وعكفوا على اللذة، وقطعوا أيامهم بالمنادرة والمنادمة، وذهبوا في حياة المجون كل مذهب؛ ووصل الحج بينهم وبين الحسان والقيان، واستهوت هذه الحال المغنين فوفدوا إلى مكة والمدينة من أقطار الدولة حتى اجتمع منهم في وقت واحد كما يقول أبو الفرج: (ابن سريج، والغريض، ومعبد، وحنين، وابن محرز، وجميلة، وهيت، وطويس، والدلال، وبرد الفؤاد، ونومة الضحى، ورحمة، وهبة الله، ومالك، وابن عائشة، وابن طنبورة، وعزة الميلاء، وحبابة، وسلامة، وبلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقاء، وابن مسجح) وحتى غلب الغناء على أعمال الناس وميولهم؛ فقد حدث الإمام مالك عن نفسه قال: (نشأت وأنا غلام أتتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني إن المغنى إذا كان قبيح الوجه لا يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء وأطلب الفقه فانه لا يضر معه قبح الوجه؛ فتركت المغنين وأتبعت الفقهاء فبلغ الله بي عز وجل ما ترى). من ذلك شاع الحب في

<<  <  ج:
ص:  >  >>