للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فما بال ميراث الحُتاتِ أخذته ... وميراث حرب جامد لك ذائبه

فلو كان هذا الأمر في جاهلية ... علمتَ من المرء القليل حلائبه

إلا أن يقول:

وما ولدت بعد النبي وأهلهِ ... كمثليَ حصانُ في الرجال يقاربه

وكم من أب لي يا معاوي لم يزل ... أغر يباري الريح ما أزوَّر جانبه

نَمتهُ فروع المالكين ولم يكن ... أبوك الذي من عبد شمس يخاطبه

أما الطامة الكبرى فهي جرير، لأنه كان مرسل العنان مطلق اللسان لا يعوقه قيد ولا تكبحه شكيمة؛ فلا هو صاحب سياسة كالأخطل، ولا صاحب نحلة كالفرزدق، ولا وارث مجادة كالاثنين، وإنما كان سوقيا ترعية رزقه الله حدة الذهن، ورقة الأسلوب، وخبث اللسان، وزاده الهراش صلابة عود، وغزارة فكر، ومتانة شعر، وسهولة قافية، فبلغ بالهجاء الفردي والقبلي غايته في الإقذاع والإقناع والقوة؛ وربما كان أول من أكره الشعر على قبول الأساليب العامية المبتذلة في الهجاء كذكر العورات، وهتك المحارم، فاضطر خصومه إلى أن يكلموه باصطلاحه، ويقاتلوه بسلاحه، وأصبح بعده الهجاء في العراق لا يفعل في النفوس إلا مشوبا بهذا القذر؛ وما مهاجاة بشار وحماد إلا صورة من هجاء جرير والفرزدق

كان جرير لعاميته وبيئته، وللأسباب التي ذكرناها من قبل في معرض الكلام عن الفرزدق، يصطنع في الهجاء أساليب الدهماء، فيعير الأخطل بالقلف والخنزير والسكر، ويقذف البعيث في أمه وهي أمة سجستانية، ويهاجم الفرزدق في جدته فيتهمها بجبير القين، وفي أخته جعثن فيرميها بابتذال بني منقر إياها على أثر حادثته مع ظمياء بنت طلبة حفيدة قيس بن عاصم، ويشهر بقومه في اخفار عمرو بن جرموز لذمتهم في قتل الزبير، ثم يتسقط عيوبه الصغيرة وهفواته الدنيا، فيجسمها بالمبالغة والتزيد كضربته النابية للرومي، وزيجته القالية من نوار

وكان الفرزدق يذهب في هجائه مذهب الفخر بآبائه، فيعدد أيامهم الظافرة، ويجدد مفاخرهم الغابرة، فلا يستطيع جرير مجاراته في هذا المظمار، فيعمد إلى نقض الفخر الصلف بالسخرية اللذعة والفحش الموجع؛ وإذا أخذ جرير هذا المأخذ لا يقام له. أقرأ على سبيل المثال قصيدة الفرزدق التي مطلعها:

<<  <  ج:
ص:  >  >>