للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قد لعمري حكيت لي غُصص المو ... ت فحركتني لها وسكنتا

ولما دفن وقف على قبره يبكي طويلا أحر بكاء ويردد هذه الأبيات:

ألا من لي بأنسك يا أُخيَّا ... ومن لي أن أبثك ما لَدَيَّا

طَوَتْكَ خطوبُ دهرك بعد نشر ... كذاك خطوبه نشراً وَطَيَّا

فلو نَشَرَتْ قُواكَ لي المنايا ... شكوتُ إليك ما صنعت إليَّا

بكيتك ياعَليُّ بدمع عيني ... فما أغنى البكاءُ عليك شَيَّا

وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليوم أوعظ منك حيَّا

وهذه المعاني كما قال أبو الفرج أخذها كلها من كلام الفلاسفة لما حضروا الإسكندرية، وقد أخرج ليدفن، قال بعضهم: كان الملك أمس أهيب من اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس؛ وقال آخر: سكنت حركة الملك في لذاته، وقد حركنا اليوم في سكونه جزعا لفقده. وهذان المعنيان هما اللذان ذكرهما أبو العتاهية في هذه الأشعار

وذكر أبو العتاهية أنه ماتت بنت للمهدي، فحزن عليها حزنا شديدا حتى أمتنع عن الطعام والشراب، فقلت أبياتا أعزيه بها، فوافيته، وقد سلا وضحك وأكل وهو يقول: لابد من الصبر على ما لابد منه، ولئن سلونا عمن فقدنا، ليسلون عنا من يفقدنا، وما يأتي الليل والنهار على شيء إلا أبلياه، فاستأذنته في إنشاد ما قلت فأذن:

ما للجديدين لا يَبْلىَ اختلافهما ... وكل غَضٍّ جديد فيهما بَالي

يا من سلا عن حبيب بعد مَيْتَتِهِ ... كمْ بعد موتك أيضاً عنك مِن سال

كأن كلّ نعيم أنت ذائقُهُ ... مِن لذة العيش يحكي لَمعَة الآل

لا تلعبنَّ بك الدنيا وأنت ترى ... ما شئتَ من عبرٍ فيها وأمثال

ما حيلةُ الموت إلا كلُّ صالحةٍ ... أوْلا فما حيلةٌ فيه لمحتال

وأما الهجاء فكان أبو العتاهية يترفع عنه ولا يقوله إلا مضطرا، فإذا قاله لم يفحش فيه كغيره، وكانت بينه وبين والبة بن الحباب مهاجاة حينما قصد والبة بغداد وهو كوفي مثله، فحسده على أن بلغ في بغداد ما لم يبلغه، وأخذ يهجوه ويذمه. وقد حدّث محمد ابن عمر الجرجاني قال: رأيت أبا العتاهية جاء إلى أبي فقال له: أن والبة بن الحباب قد هجاني، ومن أنا منه؟ أنا جرار مسكين - وجعل يرفع من والبة ويضع من نفسه - فأحب أن تكلمه

<<  <  ج:
ص:  >  >>