للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التي انقضت على خاتمة الحرب الكبرى لم تكن إلا فترة استعداد واستجمام، تستعيد فيها الدول نشاطها وتنظم اهباتها ومواردها، تحفزاً لحرب أخرى

وكما أن الحرب الكبرى كانت فورة المطامع والأهواء الاستعمارية والمنافسات التجارية والصناعية، فكذلك ستكون حرب الغد؛ وقد ظهرت بوادرها الأولى، بل لقد أضرمت شرارتها الأولى بذلك الهجوم البربري الذي نظمته إيطاليا عن عمد وسبق إصرار لغزو الحبشة؛ وليس في تاريخ الاستعمار كله اعتداء دبر بمثل هذا الإصرار الآثم والصراحة المثيرة، وإن كان تاريخ الاستعمار كله يقوم على العدوان والجريمة؛ وهذه الشرارة التي تضرمها إيطاليا الفاشستية تسطع الآن في أرجاء أوربا، وقد يندلع لهيبها بين آونة وأخرى؛ ولكن إيطاليا الفاشستية تتحدى أوربا كلها والعالم كله، ولن يضيرها أن تضطرم أوربا غداً بنار حرب عامة؛ ذلك أنها تذهب بعيداً في الاعتداد بقوتها واستعدادها وما تثيره فكرة الحرب من الذعر والروع، وقد أخذت بنفس الأحلام القيصرية التي أخذت بها العسكرية البروسية في الحرب الكبرى. ولقد كانت الفاشستية منذ قيامها بالنسبة للمثل الإنسانية العليا عاملاً من عوامل الدمار والهدم، فقد هدمت صرح الديموقراطية والنظم الحرة والكرامة الفردية ومبادئ العدالة الخالدة، وجعلت من الشعب كتلة مصفدة مسوقة، تدفعها إرادة الطغيان المسلح إلى حيث لا تعلم ولا تبغي؛ والفاشستية تنزع بطبيعتها إلى العنف والعدوان ولا تعتمد إلا على القوة الهمجية، كما أنها لا تخضع لغير هذه القوة؛ وهي تجوز الآن في إيطاليا - وفي ألمانيا - ذروة تجاربها ومغامراتها؛ وسنرى ما إذا كان هذا الاندفاع الدموي الذي تصوره عقلية الفاشستية العنيفة في صور العظمة والمجد القيصري، سيغدو قبراً للفاشستية أم سيحقق شيئاً من مطامعها وأحلامها

وهكذا تطورت فكرة الحرب والسلام بسرعة، وعادت فكرة الحرب كأداة للسياسة القومية تتخذ مكانتها الخالدة في تفكير الأمم القوية؛ ولم تكن فكرة السلام العام سوى حلم وخدعة، استظلت بها الدول الظافرة حتى تستر نصرها وتفوقها المسلح، واستظلت بها الدول المغلوبة حتى تستأنف استعدادها وتسلحها؛ ولم يكن من المعقول أن يبقى الظافر متغلباً إلى الأبد، ولم يكن من الممكن أن يبقى المغلوب ضعيفاً مهيضاً إلى الأبد؛ والآن نجد أعداء الأمس - الغالب والمغلوب - وجهاً لوجه، يلوح كل منهما بقوته واستعداده، ويفصح عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>