للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العيش، وتضطرهم الفاقة إلى الاستكانة والذلة، ولا سيما إذا راعينا رجلاً كأبي العيناء وهو مكفوف البصر، رثينا لحاله التي كان فيها، وانتحلنا له عذراً في استطالته بلسانه على الكبراء، فإنه لا يملك غيره، وهو سيفه الوحيد الذي كان يناضل به في حياته عن عيش الكفاف الذي كان يبتغيه في دنياه كما يقول ذلك لعبيد الله بن سليمان

(٣) وثالث العوامل التي غيرت مجرى حياته فقد بصره، ولم يحدثنا الرواة أحصل له ذلك الحادث في حياته البصرية أم في حياته البغدادية، وإني أرجح أن ذلك كان في حياته البصرية قبل أن ينتقل إلى بغداد، فإن أحاديثه جميعها التي نقلت عنه وهو ببغداد تنبئنا أنه كان أعمى يقوده غلامه

ويظهر أن هذا الحادث قد أثر فيه تأثيراً كبيراً فجعله ساخطاً على الحياة، يتناول الناس بقوارص الكلم. قال له المتوكل: لا تكثر الوقيعة في الناس، قال: إن لي في بصري لشغلاً عن الوقيعة فيهم، قال ذلك أشد لحيفك في أهل العافية. فانظر إلى حيفه في أهل العافية الذي يذكره له المتوكل، أما كان هذا أثراً من آثار فقد بصره؟ وشكا مرة إلى صديق له سوء الحال وفقد البصر، فقال له اشكر فإن الله قد رزقك الإسلام والعافية. قال: أجل ولكن بينهما جوعاً يقلق الكبد، ويفقد الرشد

لم يتخذ أبو العيناء سخطه على الحياة مذهباً فلسفياً له كما اتخذه شاعر المعرة من بعده، ولم يؤدّ به هذا السخط إلى الزهد والتقشف كما فعل ذلك أبو العلاء، وإنما كان سخطه مقصوراً على حزنه العميق الذي خالج فؤاده لفقد بصره

صفاته وأدوار حياته:

إذاً فقد اجتمعت عوامل ثلاثة أثرت في حياته: الوراثة والفقر وفقد البصر، حتى جعلته سليط السان حاضر البديهة متوقد الذكاء؛ ولقد تزود في حياته البصرية من آثار الوسط الذي كان يعيش فيه بما يصلح لمجالس الملوك والأمراء ومنادمتهم بأحاديث وطرف ونوادر، ثم رحل إلى بغداد بعد أن ضاقت به سبل العيش في البصرة؛ ولقد ذمها للمتوكل حينما سأله عنها فقال: من أين أنت؟ قال من البصرة. قال له: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم

تزود بتلك الرواية الواسعة واشتهر مع هذا بالجواب المسكت والمراسلات العجيبة

<<  <  ج:
ص:  >  >>