للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السر في ذلك؛ وما هو إلا السر الذي كان في شوقي بعينه، سر الامتلاء الروحي قد أمد بالطبع، وأعين بالذوق، وأوتى القوة على أن يتحول بآثاره في الكلام؛ فكل ما كان منه فهو منه، يجيء دائماً قريباً بعضه من بعضه، ولا يكاد ينفذ إلى شعور إلا اتحد به.

وقد كان عمر بن ذر الواعظ البليغ إذا تلكم في مجلسه نشر حوله جسواً من روحه فيجعل كل ما حوله يتموج بأمواج نفسية؛ فكان كلامه يعصف بالناس عصف الهواء بالبحر يقوم به ويقعد، وكان من الوعاظ من يقلده ويحكيه ولا يدري إنه بذلك يعرض الغلطة على ردها وصوابها، فقال بعض من جالسه وجالسهم: ما سمعت عمر بن ذر يتكلم إلا ذكرت النفخ في الصور، وما سمعت أحداً يحكيه إلا تمنيت أن يجلد ثمانين. . .

فالفرق روحاني طبيعي كما ترى، لا عمل فيه لأحد ولا لصاحبه وهو يشبه الفرق بين عاصفة من الهواء وبين نسيم من الريح يرسلان على جهتين في البحر. ففي ناحية يلتج الماء ويثب ويتضرب ويقصف قصف الرعد، وفي الأخرى يترجرج ويتزحف ويقشعر ويهمس كوسواس الحلي.

والشأن كل الشأن للكمية الوجدانية في النفس الشاعرة أو الممتازة؛ فهي التي تعين لهذه النفس عملها على وجه ما، وتهيئهاً لما يراد منها بقدرٍ ما، وتقيمها على دأبها إلى زمن ما، وتخصها بخصائصها لغرض ما. وإذا أنت حققت لم تجد الفروق بين النوابغ بعضهم من بعض، إلا فروقاً في هذه الكمية ذاتها مقداراً من مقدار. ولولا ذلك لكان أصغر العلماء أعظم من أكبر الشعراء، فقد يكون الشاعر العظيم كأنه تلميذ في العلم ثم يكون العلم كأنه تلميذ لقلب هذا الشاعر وعواطفه. ولئن عجز النقد العلمي أن ينال من الشاعر العبقري لقديماً عجز في كل أمة.

وقد كان فيمن حاولوا إسقاط شوقي من هو أوسع منه إطلاعاً على آداب الأمم، وأبصر بأغراض الشعر وحقيقته، وكان مع ذلك حاسداً شانئاً قد ثقب في قلبه الحقد؛ والحاسد المبغض هو في اتساع الكلام وطغيان العبارة أخو المحب العاشق، فكلاهما يدور الدم في كبده معاني ووساوس، وكلاهما يجري كلامه على أصل مما في سريرته فلا تجد أحدهما إلا عالياً عالياً بمن يحب، ولا تجد الآخر إلا نازلاً نازلاً بمن يبغض. وكان هذا الناقد شاعراً فأنضاف شعره إلى حسده، إلى بغضه، إلى ذكائه، إلى إطلاعه، إلى جهده، إلى طول الوقت

<<  <  ج:
ص:  >  >>