للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رجعوا إلى ما تقدَّم بطلانه، وعرفت أن دليلهم هنا يدور عليه.

ومثال ما ذكرته لك من لُطف الاختلاف الذي يخفى على البشر: اختلاف أئمة الاعتزال في الحركة والسكون وسائر الأكوان، هل هي مُدرَكَةٌ بالبصر أم لا؟

فقال الشيخ أبو عليٍّ الجبائي: هي مُشَاهَدَةٌ، وهو أول قولي أبي هاشم، ثم رجع عن ذلك، فنفى أن تكون مشاهدة لما التبس عليه المتحرِّك نفسه بحركته، فلم يدر هل المشاهد المتحرك وحده أو المتحرك وحركته، ولو رجع من إثبات المشاهدة إلى الوقف، لكان أقوى له، ولكنه رجع إلى الجزم بالنفي ملاحظةً للبقاء (١) على قاعدتهم الفاسدة في أن عدم الدليل على ثبوت الشيء يستلزم القطع بنفيه، فانظر إلى اختلاف هذين الشيخين الكبيرين وتردُّدهما في أمرٍ: هل هو مشاهد أم لا؟ وعلى كلام أبي عليٍّ يكون أبو هاشم جَحَدَ الضرورة المشاهدة وعرض له من الشكِّ فيها ما عرض للسوفسطائية من الشُّبهة في إنكار جميع العلوم الضروريات، وما أوقعهم في هذا إلاَّ دعوى القطع في موضع الوقف، وقد يقفون في بعض المواضع كما يقفون في إدراك الفناء. مع أن ضده مُدرَكٌ، وكما وافقونا (٢) عليه في تجويز ألوان غير هذه الألوان في قدرة الله تعالى من غير دليلٍ عليها، وكذلك في الطعوم والروائح، ولم يخافوا (٣) من هذا لزوم ثبوت ما لا يتناهي من كلِّ جنسٍ من ذلك، كما مر في أدلتهم، وهذا ينقضُ عليهم قاعدتهم في نفي ما لا دليل عليه، بل قد نصُّوا على اختلاف الذوات في العدم، واختلافها فيه غير مُدرَكٍ ضرورة، فبطلت شبهتهم، والحمد لله.

واعلم أن قاعدتهم هذه الفاسدة قد ألجأتهم إلى القطع بأن الله عزَّ وجلَّ لا يصحُّ أن يُدرك، ولا يعلم من اختلاف الأجسام والجواهر في ذواتها (٤) غير ما


(١) في (ش): للنفي.
(٢) في (ب): أو قفونا.
(٣) في (ب): يخالفوا في.
(٤) ساقطة من (ب).

<<  <  ج: ص:  >  >>