للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكون خلقُ الله للأشقياء على الفطرة خلقاً مانعاً من وقوع ما سبق في علمه الحق من شقاوتهم، بل يكون على قواعدهم خلقهم على الفطرة خلقاً مؤكداً للحجة عليهم حيث جحدوا ما فُطِرُوا عليه من معرفة معبودهم وسيدهم بعد أن خلقوا حنفاء (١) لم يَبْنَوْا على بِنيةٍ تمنع قدرة الله على اللطف بهم كما زعمت المعتزلة، فما زالوا على الفطرة التي فطرهم الله عليها حتى غيَّروها حين كَمُلَت الحجة عليهم، وخلى الله بحكمته بين من سَبَقَ في علمه شقاوته، وبين اختبارهم (٢) حتى غيَّروا الفطرة كما قال الله تعالى: {فلَمَّا زاغُوا أزَاغَ الله قلوبَهُم} [الصف: ٥]، وكما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: ١١٥]، قال الله تعالى: {وأمَّا ثَمودُ فهديناهُم} [فصلت: ١٧] الآية فهي كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥].

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " وحينئذٍ استحقَّا العقوبة بالإضلال والإزاغة.

وأما الذين سبقت لهم من الله الحسنى، فلم يُخَلِّ بينهم وبين أنفسهم، بل أمدَّهم بألطافِه فَضْلاً منه ورحمةً {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: ١٠٥].

ولهذا انتهت المعتزلة في اختصاص الله تعالى من يشاءُ بالبنية المخصوصة، وبالمُعافاة من الزيادة في الشَّهوات التي يعلمُ وقوع المعاصي عندها، وقد نصَّ أصحاب أبي الحسين على الأول، وأبو هاشم وجمهور المعتزلة على الثاني، ثم ينازِعُهم أهل السنة في دعوى قطع العقول هناك، وقد وافقوا في المعنى حيث جوَّزوا أن الله يبتلي المكلَّف بزيادة في الشهوة يعلم الله أنه يعصي بسببها، وإنما خالفوا في تسميته إضلالاً -وهو الصواب كما يأتي بيانه- وفي إرادة وقوع الذنب لحكمةٍ مع كراهته لقُبحه، بل زعموا أن الله تعالى إنما زاد في شهوةٍ المكَلَّفِ تلك الزيادة المُضِلَّة له في علم الله تعريضاً للثواب


(١) في (ش): خلقاً.
(٢) في (ش): اختيارهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>