للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن كان المتكلم بهذا أراد الترجمة عن أوائل الخلق فإن الله تعالى خلق الكافر وقدرته والداعي له، ولم يمنعه بمانعٍ ضروريٍّ، ولا مانعٍ اختياريٍّ، ووكله إلى نفسه ليَبْلُوَه ويُقيم عليه حجة عدله، لما له في ذلك من الحكمة البالغة على ما أشار إليه قوله تعالى في أهل السعادة: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [التكويرة ٢٩]، وقوله تعالى في أهل الشقاوة: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: ١٣]، وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: ١٧٩] وسائر ما تقدم في ذلك فهذا أمرٌ متفق عليه.

وهذه العبارة لا تدل عليه بل تُضَادُّه، لأن الله تعالى علم وقوع المعاصي من العاصي باختياره حجة عليه، وما قَدَّر الله أنه من غيره، لم يكن من الله، وإلا لكان قد انعكس عليه مراده في القدر، والقَدَرُ سَبَق بأن الحجة لله، والذنب من المذنب واقعٌ بالاختيار على وجهٍ يكون حجة عليه في علم الله وعقول العقلاء.

وقد قدمت الكلام في تسلسل الأمور وتدريجها بالحكمة البالغة إلى قدر الله وقضائه في المرتبة الأولى، وأن ذلك إجماع من يُعْتَدُّ به من المسلمين، لم يخالف فيه إلاَّ من نفى علم الغيب.

وإن كان المتكلم أراد بذلك الجبر ونفي الاختيار رد عليه بالتفرقة الضرورية بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب كرهاً كما مضى، وبالنصوص الصَّادِعَة: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: ٤٢] وهو نصٌّ جليٌّ لا يمكن مدافعته البتة، ولله سبحانه الحجة البالغة.

ومن ذلك قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦]، ومنه قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: ٧٥]، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>