للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعلم أن السِّرَّ كله في إقبال القلب على الله تعالى، وأكثر الفقراء قد أغفلهم فقرُهم عن الله، وأقبلوا بكلِّيَّتِهم على رجاء المخلوقين، فالله المستعان.

وفي الأغنياء أفرادٌ قلوبهم معلَّقَةٌ بالله تعالى، كما قيل في كثيرٍ من الصحابة، كانت الدنيا في أيديهم، لا في قُلوبهم، ويدل على ذلك ما رواه الترمذي عن أبي ذرٍّ، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليست الزَّهادةُ في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكنَّ الزُّهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصِبْتَ بها أرغب منك فيما أنها لو بقيت لك ".

زاد رزين في " كتابه ": " لأن الله تعالى يقول: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: ٢٣] (١).

قلت: وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:

ومَنْ كَمُلَت فيه النُّهى لا يسرُّه ... نعيمٌ، ولا يرتاعُ للحَدَثانِ

وإنما استحبَّ شيوخُ الصوفية التَّجرُّد من الأسباب، لأن الذِّلَّةَ في الفقير طبيعيةٌ وفي الغنيِّ اكتسابيَّةٌ، والطبيعي أقوى من الاكتسابيِّ. كيف إذا ضُمَّ التَّذلُّل الاكتسابيُّ إلى الذِّلَّة الطبيعية، وإلى ذلك أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " أهل الجنة كلُّ ضعيفٍ متضعِّف " (٢) على أحد التفسيرين كما تقدم، فالله تعالى يَهَبُ لنا من الذِّلَّةِ والخضوع لجلاله، ولأوليائه، ولمساكين خلقِه ما يبلِّغُنَا رضاه.

وقد يُستَدَلُّ على قوة الرَّجاء والرُّجوع إليه بقوله تعالى: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: ٢٣]،


(١) تقدم تخريجه ٨/ ١٩٩.
(٢) تقدم تخريجه ص ٣٥٦ من هذا الجزء.

<<  <  ج: ص:  >  >>