ـ[ترانيم الحصاد]ــــــــ[01 - 12 - 2009, 05:29 ص]ـ
بوركت أخي السراج
واصل متابعون حفظك الرحمن ..
لي وقفة حول قوله:
غدا غدوةً والحمد نسجُ ردائه = فلم ينصرف إلّا وأكفانه الأجرُ
تردّى ثيابَ الموتِ حمراً فما أتى = بها الليلُ إلّا وهي من سندسٍ خضرُ
لقد حاك أبو تمام من الصدق ثوباً ومن الندى أثواباً، وكذلك من الثراء والهوى والعافية والحسن والملاحة والجمال والغنى والمدح والصبر، فإذا اندرجت هذه المعاني كلّها تحت جناح الفضيلة، فماذا نقول إذاً، في أثوابٍ حاكها من الموت واللوم والحزن والأسى. .. ؟!
قال في رثاء محمد بن حميد الطائي:
غدا غدوةً والحمد نسجُ ردائه = فلم ينصرف إلّا وأكفانه الأجرُ
تردّى ثيابَ الموتِ حمراً فما أتى = بها الليلُ إلّا وهي من سندسٍ خضرُ
دلالة الثوب توحي بالحزن والكآبة، يقف أبو تمام في حضرة الموت، وهو موقف يدفع الإنسان على الخشوع ويكلّله بالجلال، ويبرّر استخدام الشاعر لمفرداتٍ تلائم لفظ الموت من مثل:
" أكفان، الأجر، سندس، خضر، التراب،. .. " وهي جميعاً تثير في الوجدان مشاعر الحزن والأسى. وقد طغت على أبي تمام جاعلةً ألوان الطيف في عينيه ذات صبغةٍ سوداء، ولعلّ خير ما يدل على ذلك استخدامه لمفردة الليل تارةً ومفردة الهلال تارةً أخرى.
ـ[السراج]ــــــــ[01 - 12 - 2009, 10:05 م]ـ
وبوركتِ ترانيم ..
على الحضور المميز وعلى القراءة الماتعة ..
ورجائي مواصلة القراءة لهذه المقطوعة النادرة بنثر الأبيات وتشريح المعاني.
وقد كنتُ تمنيتُ أن لم يُسقط السائل بعض أبيات القصيدة الدالة على أحداث مهمة في المعركة، فالقصيدة ثريّة، هي رسالة تعزية وكذلك فخر ومشهدٌ مصور لما دار في المعركة وما حدث للقائد ..
أما البيتان اللذان علّقتِ عليهما ففيهما من الجمالِ ما يفيض!
وأقرأُ معك هذا البيت:
غَدَا غَدْوَةً والحَمْدُ نَسْجُ رِدائِه=فلم ينصرفْ إلا وأكفانُه الأجرُ
هذا البيت يُذكرني بالصلاة، ومجالس العلم والذِكر وأحاديث المسبحين الحامدين اللهَ ..
ولأن النسج أقوى فقد انتقى شاعرنا هذه اللفظة دلالة على قوة إيمان القائد، فما يُغادر إلى معركةٍ أو يكون في سِلما إلا والحمدُ رفيقه. فانظر كيف جعل الحمد رداء يرتديه الطوسي ويحيط به أينما حلّ؟!
بل أدقّ من ذلك، وأجمل وأرقى في التصوير الشعري والابتكار – وهو الشاعر المعروف بروعة التصوير الفني – إذْ جعل الرداء مكوناته – خيوطه المنسوجة – حمدا، فالحمد (المصدر) هي خيوط الرداء الذي يحيط بالطوسي، وما أجمل ذلك!.
ومن أول الغداةِ وهو في حمدٍ كما هو وسط المعركة لا يُغادره أبداً لأنه أصبح جزءاً منه، يحيط به إلى أن انتهى اليوم وغاصتْ شمس النهار في مستقرها فأحاطتْ بالقائد الرماح والسهام من كلّ صوب فبللت جسده الطاهر حُبا وكأنها تسابقت لعناقه.
لا أدري كيف استطاع أبو تمام التوفيق بين لفظتي (الرداء) و (الأكفان) في بيت واحد .. وكأن المسافة الزمنية بين جمال ردائه المنسوج من الحمد تكاد تنخفض في تحوّل الحمد – وهو أمر طبيعي – إلى أجر فكانت الأكفان نسيجها الأجر، بل أجمل وأدق وأرقى في التصوير: فهنا الأكفان هي الأجر، هي الأكبر وهي الأكثر فكان أجره أكثر (لله درّ الشاعر)!!
أمر آخر: (فلم ينصرفْ) تأكيدٌ على ثبات القائد في المعمعة – وسط مستنقع الموت – لارتباطه بنسيجه القوي المحيط به فقد توكّل على خالقه، يرجو أكفاناً غير ما عهدناها،أكفانا هي الأجرُ.
ـ[ترانيم الحصاد]ــــــــ[02 - 12 - 2009, 02:32 ص]ـ
أخي: السراج بوركت على تحليلك الممتع الذي يجعل القارئ يبحر معك في زوايا التحليل والقراءة
نعم الشعر ومضات خاطفة وليست تقارير تبحث أدق التفاصيل وتهتم بالتقريرية الواضحة والسردية الدقيقة.
ولعمري إنه جوهر الشعر وحقيقته، فالتفاصيل والتبرير والاستطراد ليست من الشعر في شيء، مهمة الشاعر أن يشير فقط إلى اللوحة أو اللوحات الفنية ثم يتنحى تاركا للمتلقي تأملها والاستمتاع بها وحده، أما إذا أخذ يشرح مكونات اللوحة وكيف رسمت ووضح رموزها فقد أفسد جمالها وعكر صفو المتلقي وصادر خياله وحجَّم ذائقته ..
نكمل اللوحة:
غدا غدوةً والحمد نسجُ ردائه=فلم ينصرف إلّا وأكفانه الأجرُ
تردّى ثيابَ الموتِ حمراً فما أتى=بها الليلُ إلّا وهي من سندسٍ خضرُ
أمّا الألوان المُصرَّح بها في المثال، فلا يمكن النظر إليها على وجه الحقيقة، لأنها وردت في سياقها للتدليل على معان اكتسبتها بفعل تواضع الناس عليها وتوافقهم، فذكره اللون الأحمر دلالة استشهاد وتضحية واللون الأخضر دلالة نقاءٍ وطهارة. ويبقى اللون الأسود كامناً في الليل، يعكس كآبة نفس الشاعر وحزنه جرّاء المصاب الجلل.
ما سلف لا يعني عدم إمكانية وجود أملٍ يتعلق به أبو تمام، ويخرج بفضله ممّا ألمَ به، فإن كانت الصور الثلاث الأولى المرتبطة بالحياة الأرضية: " نسج ردائه، أكفانه الأجر، ثياب الموت " رموزاً لمعنى واحدٍ هو الفضيلة أو ربّما الطهارة فإنّ " الصورة الرابعة رمزٌ إلى حياة الأبرار الصالحين المتسربلين بلباس المجد والبقاء. وهكذا تصبح حياة الإنسان الآخرة استمراراً لحياته الدنيوية "
¥