تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

« .. عندما ارتفعت الأعلام والخرق الملونة والزغاريد عاليا كانت جثة القاضي أحمد بن الطاهر قد غطتها الكواسر وحلقت حولها الكلاب التي بدأت تقترب منها وتتشممها. عندما سار عبد القادر باتجاه الجثة، وقف والده بينه وبينها. كان الرجل البدين قد بدأ في فك الحبل عن عنقها. وتركها تسقط على الأرض قليلا قبل أن يساعد المرأة الملحفة والصامتة على وضعها على ظهر الحمار. عندما أراد أن يشدها بنفس الحبل الذي شنقت به، مدت المرأة يدها وتمتمت:

- خلوا الحبل عندكم باش تشنقوا به واحد آخر. الله يكثر خيركم.» ()

فإذا كانت البداية ولقاء القارئ بالأمير قد تمت على هذا النحو من الأجواء الكارثية التي اشتركت فيها الطبيعة وظلم الناس، لترسم خلفية البيعة التي أسست ميلاد أول دولة جزائرية بالمعنى الحديث للكلمة. فإن الخاتمة هي الأخرى لا تترك القارئ إلا مثقلا بمشاهد أعواد المشانق والجثث المتمايلة عليها.: «كانت أعواد المشانق التي نصبت وعلقت عليها أجساد العرب الباقين واليهود تبدو من بعيد وهي تتدلى كالعناقيد الجافة. تحيط بها الكلاب الصفراء التي خرجت فجأة من مخابئها على الرغم من البرد والجوع والمطر. تنظر باشتهاء بينما الكواسر تقتحم الأدخنة العالية، تخترقها بعنف لتحوم دفعات دفعات على رؤوس الأجساد المتآكلة الأطراف والتي بدأت تتصلب وتتجمد من قوة البرد حتى أن النقرات الأولى لم تأت بأي شيء إذ أنها ارتفعت عاليا بمناقير فارغة، فاستعدت لمعاودة الكرة أمام كلاب زاد عددها وذئاب تنتظر من وراء الأشجار والحيطان المهدمة إلى المشهد الذي بدأ جمهوره يزداد عددا وكثافة وتنوعا.» ()

5 - شخصية "الأمير":

5 - 1 - الرقة وسرعة التأثر:

قد يزعم الروائي أنه يركز على الجانب الإنساني في شخصية الأمير، وأنه يجتهد في الابتعاد عن الشخصية التاريخية النمطية التي سجلتها الروايات، وأن هدفه رفع الغطاء عن الجانب الخفي من الشخصية، فيعرضه إنسانا له أشواقه ومخاوفه، يعلو قوة ويسفل ضعفا. وأن هذا الفعل من شأن الرواية أساسا. غير أننا حين نقبل منه ذلك، نريد أن يكون وصف الجانب الإنساني قائما على شيء من المصداقية التي تفتح باب الاحتمال حتى لا تتعارض الرواية مع النقل تعارضا يفتح باب الشك في النوايا والمقاصد.

لقد حاول الروائي تقديم "الأمير" شابا رقيق الحس، سريع التأثر إلى درجة البكاء يوم بيعته أميرا للحرب لا للسلم. فصنع له هذا المشهد:

«عندما سار عبد القادر باتجاه الجثة وقف والده بينه وبينها ... أراد عبد القادر أن يتبعها بحصانه ويستفسر عن الأمر لكن والده شد لازمة الحصان ودفع به بهدوء على الوراء.

-لا داعي إنها زوجة القاضي أحمد بن الطاهر. قاضي أرزيو، رفضت أن يدفن في سهل غريس، فلم أمانع، قلت لها هنا أو هناك فأرض الله واسعة. قالت: أرض الله ضاقت ولم تعد واسعة. اسمحوا لي أن أهب به نحو تربة أكثر رحمة. هذا ما قالته زوجة القاضي أحمد بن الطاهر.

- ما أدهشني في هذه المرأة هو قطعها لكل ها القفر لإنقاذ زوجها فعادت بجثة.

- كانت تريد أن تتقرب منك إقناعك ولكنها لم تستطع الوصول إليك.

-الله يغفر لنا جميعا ويسدد خطانا إذا زاغت أرجلنا عن المسلك القويم. ثم التفت الشيخ محي الدين نحو إبنه الذي ظل متسمرا فوق حصانه على مشهد المرأة وهي تدفع بدابتها في سهل غريس

رفع عبد القادر لحاف برنسه ومسح عينيه

-تبكي يا بني؟

لا أمسح الغبار عن وجهي. كان الله يرحمه. أستاذي ومرجعي في الفقه. خسارة كبيرة. ألم يكن هناك حل شرعي أقل سوءا من الإعدام.؟» ()

غير أننا حين نراجع كتب التاريخ نجد أن الحادثة قد وقعت بتدبير من الأمير عبد القادر نفسه، وبعد بيعته بمدة غير قليلة راجع فيها القاضي ونهاه عن تعاطيه مع المحتل .. ففي أقدم كتاب يتحدث عن الأمير، يقول حفيده: «بعد أن فرغ الأمير من شؤونه ورسوم ملكه نهض من خضرته معسكر في شوال سنة مائتين وثمانية وأربعين، وفي فبراير سنة ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين ليختبر الأحوال، ويتفقد الأعمال ويجمع شمل الأقوال بالأفعال، ويقيم من تخلف عن البيعة على الطاعة ويحمله على سلوك سبيل الجماعة والوطن .... فانتهى إلى مرفأ أرزيو وكان قاضيها أحمد بن الطاهر يراجع حاكم وهران ويدعوه إلى الاستيلاء على المرسى المذكورة فقبض عليه الأمير وأشخصه إلى معسكر فاعتقله بها وأقبل على

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير