قال العقاد: يا مولانا هذه فلسفة منحلة .. هذه فلسفة القبور .. فلسفة عدمية. فالفلسفة التي تقول إنه لا يوجد غير الفرد وأن المجتمع لا قيمة له .. هذه الفلسفة لا قيمة لها لأن الأساس هو احترام الفرد. وهي تتحدى الحرية .. حرية الفرد. وكيف تكون حرية بلا مجتمع يا مولانا؟ .. التحرر من من يا مولانا؟ .. التحرر من ربقة المجتمع .. من أجل ماذا؟ من أجل لا شيء!
وتضاءلت في مقعدي .. ولو هزني أحد لسقطت فورا .. إن فلسفتي ولا حاجة. الأستاذ يقول!
لخامس مرة: العقاد!
أحزنني العقاد. هزمني بلا رحمة. كان قاسيا. هدم فوق دماغي كل ما بناه الوجوديون. ولكن لا أعتقد أن العقاد قد قرأ كل كتب الوجودية. لا يمكن أن يكون قد قرأ الفيلسوف الألماني هيدجر الذي ولد معه في سنة واحدة، ولا قرأ سارتر ولا كيركجور. إنه لم يذق طعم الوجودية التي لم تقل إن الفرد يفعل أي شيء بحريته. إن الحرية عبء. لأن الحرية مسؤولية. والمسؤول هو الإنسان الحر. ومن هموم الوجودية هموم الإنسان الحر .. كل شيء أمامه اختيارات وممكنات .. أمام سوبر ماركت له أن يختار منه ما يعجبه. فإذا اختار أصبح مسؤولا .. وأنت لا تختار إلا نفسك، أي الذي يريح نفسك، أو الذي يؤكد وجودك في مواجهة الآخرين ..
وكان اللقاء بعد ذلك عاصفا. أحسست تماما كأنني أقذف العقاد بالحجارة. هل هذا معقول؟ معقول .. لأنني أدافع عن رأيي في نظرية اعتنقتها وارتحت إليها .. رغم أن الوجودية كلها ليست مريحة، لأنها تجعل الإنسان مليونيرا فلسفيا يختار ما يعجبه ويلتزم به .. ولك أن تختار ..
وفي هذا اليوم تضايقت جدا. ولكن أردت أن أنتقم. لا .. «أنتقم» هذه كلمة فظيعة .. كيف قفزت إلى لساني؟ بلاش أنتقم .. ضايقني وأريد أن أضايقه لأنه نسف ما نعتقده. لا بد أن أضايقه ..
لا بد أن أسمع منه ما لا يعرف عن الوجودية. ويبدو أن الأستاذ قرأ الكثير فيها وعنها، وإلا كيف وصل إلى هذه النهاية الشنيعة. إن العقاد ينتسب إلى مدرسة فلسفية أخرى وهي مدرسة الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل. وهي مدرسة التحليل المنطقي. كل شيء بالعقل .. بالمنطق الذي يظهر في مقالاته ..
قلت له: أستاذ .. أنا متابع كل ما صدر عن الوجودية. فقد ظهر منذ أيام كتاب مترجم للفيلسوف الدنماركي كيركجور. وهو واحد من آباء هذه الفلسفة.
وكأنني طعنت الأستاذ في كرامته .. في كبريائه. تغيرت ملامحه. هل غضب؟ نعم. والتفت إلى الباب ونادى الخادم. وجاء الخادم، قال له: هات الكتب التي على السرير. وكانت مفاجأة موجعة .. إنها كتب كيركجور التي ظهرت كلها .. وليس كتابا واحدا كالذي عندي .. ولم أكن قد رأيت كل هذه الكتب. وفي أعماقي قلت: «جول» يا أستاذ!
لسادس مرة: العقاد!
لم أسترح ولا أعرف كيف أواجه الأستاذ في الفلسفة التي تخصصت فيها. ومن المؤكد أنه يعرف أكثر ..
وكنت أول المتكلمين: يا أستاذ أنت قرأت الفلسفة الوجودية الدنمركية والفرنسية، أما الفلسفة الألمانية للفيلسوف هيدجر، وهو أبو الفلسفة الوجودية، فيقول الفيلسوف سارتر إنه قام بتبسيط الفلسفة الوجودية الألمانية، فالذي يريد أن يفهم هيدجر عليه أن يقرأ سارتر. وفي كتب أستاذنا د. عبد الرحمن بدوي إشارات كثيرة إلى ذلك. وعبد الرحمن بدوي تلميذ لهيدجر، وقد ظهر ذلك في رسالة الماجستير التي عن «الموت والعبقرية» ورسالة الدكتوراه التي كان موضوعها «الزمان الوجودي». إنني أذكر كل ذلك أمام الأستاذ، مؤكدا أنني أعرف ما لا يعرف. فهو لا يعرف اللغة الألمانية ولا يدري شيئا بالمفردات الفلسفية ذات الأصول اليونانية.
قلت ذلك بهدوء. أريد أن أستعرض ما أعرف. ولكن لا أشير إلى أن الأستاذ ربما لا يعرف. وسكت.
وانطلقت مدفعية الأستاذ التي أوجعتني وأصابتني في عزيز لدي، قال: يا مولانا عبد الرحمن بدوي بتاعكم ده رجل جاهل ..
¥