تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أيام العشر الأواخر من رمضان بدأت تنقضي ... و العيد قاب قوسين أو أدنى .. لا أعرف أين سنذهب وأنا أنتظر صديق الطفولة .. و لكن كالعادة الجزء الأكبر من وقتنا ليلا نقضيه في جولات بين الأسواق و التجمعات و الشوارع .. وحين استقررت على مقعد السيارة بجوار عبد الرحمن سألني .. هل جهزت ثوبا جديدا؟ ... لقد أقبل العيد ... قلت له: لا ..

قال: ما رأيك نذهب للخياط الآن .. ؟!؟

وأنا أهز رأسي متعجبا سألته: بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد ... أين نجد الخياط الذي يسابق العيد و يختصر الأيام؟ .... لم يعجبه حديثي و استغرابي ...

سابق الزمن بسيارته حتى توقفت أمام الخياط بصوت قوي يوحي بالعجلة والتسرع!!

فاجأني صاحبي بالسلام الحار على الخياط فهو يعرفه منذ زمن وقال له: نريد أن نفرح بالعيد ... ونلبس الجديد .. !!

ضحك الرجل و أجاب وهو يربت على كتفه: كم باقي على العيد ... لماذا لم تأت مبكرا؟

أجاب عبد الرحمن و هو يهز يده بحركة لها معنى: سنزيد لك الأجرة ... المهم أن ينتهي بعد غد!!

وأعاد الموعد مرة أخرى .. بعد غد ..

و أنا أرقب المفاوضات الشاقة إذا بصاحبي يدفع جزءا من الثمن وهو يردد .. ويؤكد بعد غد .. لا تنسى الموعد!!

حتى قبيل الفجر .. ونحن لاهون ... ساهون ... غافلون مضت الليلة كاملة لم نذكر الله عز وجل فيها ولا مرة واحدة .. ربما أنها ليلة القدر!!

حياة لا طعم فيها .. و سعادة لا مذاق لها .. ولجنا من المعاصي كل باب وهتكنا منها كل حجاب .. وحسبنا الأمر دون حساب ... إظهار للسرور و السعادة .. و ضحكات تملأ المكان .. ولكن في القلب هم وغم ... والنفس تحلق بها حسرات ويحيطها نكد ....

افترقنا قبيل الفجر .. يجمعنا الليل و السهر و العبث .. نلتقي على المعاصي وتجمعنا الذنوب .. نوم طويل .. يمتد من الفجر حتى العصر ... صيام بلا صلاة ..... وصلاة بلا قلب .... ساعة الصيام التي أستيقظ فيها قبل المغرب كأنها أيام .. أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة ... و بقراءة الصحف و المجلات ..

وأنا أنتظر موعد أذان المغرب حادثني بالهاتف أحد الأصدقاء ... وصوته متغير وقال ... أما علمت أن عبد الرحمن مريض؟ ....

قلت: لا .... مساء البارحة كان بصحة وعافية!!

قال: إنه مريض!

انتهت المكالمة ... و الأمر لا يعني لي شيئا ... سوى معلومة غير صحيحة .... و المؤذن يرفع أذان العشاء ... فإذا بالهاتف يناديني ... إنه الشقيق الأكبر لعبد الرحمن ... قلت في نفسي: ماذا يريد؟

هل سيؤنبني على ما أفعله أنا و عبد الرحمن؟ ... أو أن أحدا أخبره بزلة من زلاتنا أو سقطة من سقطاتنا .. ولكن أتى صوته منهكا مجهدا ... و عبراته تقطع الحديث ... وأخبرني بالخبر ... مات عبد الرحمن ....

بُهِت ... ولم أصدق ... لا أزال أراه أمامي ... وصوته يرن في أذني!!

سألته: كيف مات؟

وهو عائد إلى المنزل ارتطم بسيارة أخرى قادمة ثم حمل إلى المستشفى ... ولكنه فارق الحياة ظهر هذا اليوم!!

أذني لا تصدق ما تسمع .. لا أزال أراه أمامي .. نعم أمامي .. بل اليوم موعدنا لنذهب إلى السوق الفلاني ... بل و غدا موعد ثياب العيد .. !!

و لكنه أيقظني من غفوتي و هز جوانحي و أزال غشاوة على عيني عندما قال: سنصلي عليه الظهر غدا .. أخبر زملاءك .. انتهى الحديث ..

تأكدت أن الأمر جد لا هزل فيه و صدق لا كذب معه .. وأن أيام عبد الرحمن انقضت .. آمنت بأن الأمر حق .. وأن الموت حق .. وأن غدا موعدنا هناك في المقبرة لا عند الخياط؟ .... لقد ألبس الكفن وترك ثوب العيد ... تسمرت في مكاني .. و أصبت بتشتت في ذهني ... وبدوار في رأسي .... قررت أن أذهب إلى منزل عبد الرحمن لأستطلع الأمر .. وأستوضح الفاجعة .. فلا يزال الشك يراودني ... عندما ركبت سيارتي فإذا شريط غناء في جهاز التسجيل .. أخرجته .. فانبعث صوت إمام الحرم من المذياع يعطر المكان بخشوعه و حلاوته .. أنصت بكل جوارحي .. وأرهفت سمعي كأن الدنيا انقلبت ... و القيامة قامت .... والناس تغيرت .. أوقفت سيارتي جانبا أستمع ... وأستمع ... وكأني أول مرة أسمع القرآن .. وعندما بدأ دعاء القنوت .. كانت دمعتي أسرع من صوت الإمام .. رفعت يدي تستقبل تلك الدموع .. وقلبي يردد صدى تلك العبرات ... وبارقة الأمل خلف تلك الضلوع .. أعلنت توبة صادقة .. بدأتها بصحبة طيبة ورفقة صالحة .. من كرهتهم ... هم أحب الناس إلى .. من تطاولت عليهم .. هم أرفع الناس في عيني ... من استهزأت بهم .. هم أكرم الناس عندي ... كنت شفا جرف هار .. ولكن الله رحمني!!

بعد شهرين فاجأت الخياط وسألته عن ثوبي .. سأل عن عبد الرحمن .. قلت: مات .. أعاد الاسم مرة أخرى .. قلت له: مات .. بدأ يصف لي الرجل وسيارته وحديثه ..

قلت: نعم هو .. لقد مات .. وعندما أراني ثوبه بدأت أسترجع الذاكرة .. هل حقا مات؟ ثوبي بجوار ثوبه .. ومقعدي في السيارة بجوار مقعده .. ولكن بقي لي أجل وعمر .. لعلي أستدرك ما فات ..

بعد فترة من الزمن .. هدأت نفسي .. أطلت سعادة لا أعرفها .. انشراح في القلب وعلى عيني سكينه ووقار .. حمدت الله على التوبة و الرجوع والأوبة ولكن .. بقي أخ لي هناك .. لا يزال على عينه غشاوة ويعلو قلبه ران المعصية ... هل أتركه؟؟ .... شمّرت عن ساعدي .. لأن أتركه ... أمامه نار وعذاب ... وأهوال وصعاب ... لن أتركه ... وقد هداني الله .. هنا كتاب .... وهناك شريط ... وبيني وبينه نصيحة صادقة!!

من موقع الشامسي نت

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير