وهنا باغتني الشيطان لأول مرة بكل قواه كأني أسمعه يحدثني بصوت عال في عرض البحر ويقول لي “لقد خذلك ربك، يريد الله أن يذلك، ويلعب بك وستموت بعد ذلك لا محالة” سمعت صوت الشيطان مستهزئاً ساخراً، والعجيب في الأمر أن الصوت لم يكن من داخلي ولكنه صوت كأنه آت من الخارج أنظر حولي فلا أرى إلا الأمواج والبحر ولا أسمع إلا تلاطم الأمواج وهذا الصوت الساخر المستهزئ.
بادرت مرة أخرى بالوضوء وقاية وأمناً وحماية، ودعوت الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وقرأت المعوذات ونفخت في يدي ومسحت كل جزء من جسدي، وأصرخ بأعلى صوتي حتى يرتفع صوتي عن صوت الشيطان الساخر وأقول
“يا معين أعني، يا مغيث أغثني”
وأصلي على سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم بأعلى صوتي لعل الله يحن علي بصلاتي على أحب خلقه إليه "صاحب شفاعة اليوم الأعظم"، وهنا سمعت أذان العشاء ومرة أخرى كان للأذان في نفسي أعمال هي من أعمال الآخرة وسكينة وطمأنينة وبشرى وأمل.
ولو أنني سئلت أي الاثنين أشد عذاباً وتنكيلاً بي أهي الشمس الضارية الحارقة تسلخ جلدي بسياط لهيبها وتحرق جسدي بألسنة نيرانها، أم البرد القارس المؤلم الذي يفتت العظم ويمزق الجسد من الألم في منتصف الليل والقشعريرة والرجفة التي تصاحبها كل ليلة لما استعطت أن أجيب!
وكل الذي حال بيني وبين الموت من البرد في الليلتين هو أحقر من أن أذكره في قصتي هذه ولكني استحضرت فيه معنى العبودية والضعف الكامل لله. هل يمكن أن يصدق أن الذي حال بيني وبين الموت من البرد هي قطرات البول الساخنة الذي حرصت أن احتبسها في النهار وأبقيها ليلاً عندما تشتد علي القشعريرة وأخشى أن تنخفض درجة حرارتي “ Hypothermia” فتكون هذه القطرات في داخل بدلة الغوص قطرات الحياة الدافئة.
ما أضعفك يا ابن أدم وما أجرأك على خالقك وأنت من أنت وهو سبحانه من هو ..
“يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم”.
أخذ مني الإرهاق كل مأخذ ووصلت إلى نقطة الاستسلام. اشتدت علي القشعريرة فدعوت الله أن يخلصني من هذا الكابوس وناجيت ربي أسأله يا رب لم يعد لي من قوة فقد يكون من الأفضل أن تأخذني إليك برحمتك. تذكرت والدي وزوجتي وبناتي الثلاث ودعوت لهم فإني أعلم أنهم ليسوا ممن يقدر على تحمل مثل هذا الامتحان.
وأحسست براحة عميقة فكنت أخشى أن أنجو ثم أعلم بأن أصدقائي لم ينجوا فألوم نفسي. كيف أنجوا ويهلكون؟ واستحضرت معنى أن الغريق في الجنة فأصبحت أرى نعيم الجنة في الموت وأعيش جحيم الماء في الحياة الذي أصبح أشبه ما يكون بماء نار مسكوب على وأصرخ بأعلى صوتي من الألم وقد كثرت جروحي وآلامي.
نظرت نظرة أخيرة فوجدت نفسي أبتعد أكثر فأكثر عن اليابسة وعلمت أن البحر يبتلعني. استجمعت شتات فكري وأمري واستحضرت معنى الشهادة واستشهدت وأسلمت نفسي لله وأغمضت عيني واجتهدت في استقبال القبلة وودعت كل ما في الدنيا من ذكريات وآلآم وأفراح وأتراح واستقبلت ربي أدعوه أن يكتب لي الجنة وأن يكون ماء البحر قد غسل ذنوبي كلها وحمدت الله على هذه الميتة وأنني لم أمت موت الفجاءة حيث لا وقت للمراجعة والاستغفار.
تخيلت نفسي أشرب ماء البحر وأن الكرة الأرضية تنشق من تحتي وأنا أنزل فيها وبدأت في النزول وفجأة ناداني صوت صارخ “إنما هي شعرة بين حفظ النفس والانتحار وفيها مصيرك إلى جنة أو إلى نار” إنك تنتحر”. فدفعت نفسي ثانية بكل ما تبقى لي من قوة وبدأت أسبح مرة أخرى ولكن قواي ما لبثت أن خانتني ثانية والقشعريرة استنزفت ما بقي لدي من قوة وأجد صعوبة في التنفس فعلمت أنها علامة ما قبل الموت. وبدأت أغوص وفجأة موجة قوية ترفعني إلى السطح فأخذت نفساً عميقاً بما تبقى لي من قوة فاستشعرت يد الله تحملني وترفعني ونسمة هواء عجيبة كأنها ملئت بروح السماء وأنظر حولي فأرى أربعة أو خمسة دلافين “ Dolphins” يطوفون بي في هذا الليل المظلم يصدرون تلك الأصوات الجميلة والتي طالما ظننتها صورة من صور تسبيحهم لخالقهم فأدركت أنها علامات الحياة يرسلها الله لي ليعلمني أنه سبحانه منجيني ولو بعد حين.
¥