تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما خلاصتها الفكرية فتتمثل في إنكار الروح وإنكار استقلالية العقل، والإيمان بالجسد وحده واعتبار السلوك البشري بأكمله: "أفعالا شرطية منعكسة" لا غير أي أن السلوكية تدعم النظرية الماركسية القائلة بأن: "واقع الناس هو الذي يعين مشاعرهم" وتسند نظرية إنجلز في أن العمل هو الذي خلق الإنسان أي طوره عن القردة ومن هنا أطلق عليها الفيلسوف "جود" اسم: "المادية الحديثة". وعن ذلك يتحدث هاري ويلز قائلا:

"ونظرية بافلوف عن نظام الكلام وهو نظام قاصر على الإنسان وحده هي النظرية التي تملأ الثغرة التي أشار إليها إنجلز في كتابه عن الانتقال من مرحلة القردة إلى الإنسان". (فإنه كما تقدم جعل الكلام الذي هو خاصية التعبير والتواصل والتأثير كما يقول بعض علماء اللغة جعله مجرد رد فعل عكسي لمطلب مادي بحت فالكلب لم تتطور ملكاته الإدراكية ليدرك دلالة رمز الصفير على مرموز بعينه إلا لما ارتبط ذلك في ذهنه بالطعام الذي يتناوله فقيس عليه الإنسان الذي ابتكر اللغة هو الآخر ليلبي احتياجاته المادية دون نظر إلى أي جانب إنساني، مع أن اللسان كان أداة الإفهام التي نزل بها الوحي على قلوب الأنبياء عليهم السلام: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، وكان أداة العلماء والأدباء لتسجيل علومهم وإبداعاتهم الفكرية، فإهمال وتحقير كل هذه الغايات العليا في مقابل اعتبار وتعظيم الغايات الدنيا التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان إجحاف بحق الإنسان الذي جعلته الشيوعية مجرد حيوان عامل، أو ترس في آلة الإنتاج المادي دون نظر إلى أي جانب معنوي فيه، ولا شك أن مناقضتها للفطرة الآدمية على ذلك النحو الفاحش هو الذي أدى إلى سرعة انهيارها إذ لم تستوف الحد الأدنى من الآدمية التي تقوم عليها الحضارات الإنسانية!).

وهكذا نجد أن نظرية بافلوف في المعرفة البشرية إنما تقدم إسهاما جليلا "للمادية فهي تزودنا بالحلقة الأخيرة في البرهان على صدق القضية المادية الأساسية القائلة بأن الوعي أو العقل البشري ثانوي بالنسبة للمادة ومشتق منها ... ولهذا السبب نفسه تلقت المثالية ضربة ساحقة وإن لم تكن القاضية والأخيرة وهي المذهب القائل بأن المادة ثانوية للنشاط العقلي ومشتقة منه".

"إن علم دراسة النشاط العصبي الراقي هو خطوة جديدة تؤكد عمق نظرية المعرفة المادية القائلة بأن الوعي والمعرفة انعكاس للواقع وأن الحق تطابق معه. وفي هذا يقول لينين: "يعكس الوعي الوجود بوجه عام" وهذا هو مجمل موقف كل المذاهب المادية. والإحساسات هي المواد الأولية التي يستخرج منها الفكر والعلم التجريبيان الحقائق والقوانين التي تعكس الطبيعة وحركة العالم الخارجي، وحجر الزاوية لأي نظرية مادية في المعرفة هو القول بأن الإحساسات صور للواقع إنها منبهات صادرة عن الموضوعات الخارجية ولهذا يقول لينين: "إن كل مفكر مادي يرى أن الإحساس ليس سوى رابطة مباشرة تربط العقل بالعالم الخارجي إنه تحول لطاقة الإثارة الخارجية إلى حالة ذهنية ويتم تحول هذه الطاقة من خلال الجهاز العصبي وهو ما اكتشفه بافلوف وعبر عنه في صورة "الميكانزمات" المترابطة التي تربط بين النظامين الكلامي والحسي". اهـ بتصرف واسع

فقصر النشاط الإنساني الراقي في هذه الدائرة المادية الضيقة انحطاط به من مرتبة الآدمية التي امتاز بها عن بقية الكائنات إلى مرتبة الحيوانية التي يشارك أفرادها قوى الحس والتخييل فلا يحصل بذلك حد جامع مانع للنوع الإنساني يميزه عن بقية الأنواع الحيوانية، فذلك الحد هو ما امتاز به الإنسان من القوتين الإضافيتين: القوة العقلية والقوة الفكرية، فبهما يستطيع ابتكار معان جديدة من الصور العلمية المختزنة فيه، وهما من هذا الوجه يقابلان الوجود اللفظي والرسمي، فإن المعنى الذهني أو الصورة العلمية المختزنة تختلف الألسنة في التعبير عنها بكلمات مفهمة مسموعة تبعا لاختلاف المعارف والثقافات: فمنهم من يؤديها بلفظ فصيح، ومنهم من يؤديها بلفظ ركيك، ومنهم من يؤديها موجزا ومنهم من يؤديها مسهبا ..... إلخ، وذلك جار، أيضا، في الوجود الرسمي أو اللغة المكتوبة، فالمعنى الواحد تصوغه الأقلام في قوالب متباينة تبعا لتباين معارف وثقافات الكُتَّاب.

وهاتان القوتان هما محط التكليف ولأجلهما بعث الأنبياء عليهم السلام، إذ بهما تعلق الحجة الرسالية.

وكل منا يمارس هذه المهارات المعقدة في تلقائية فلا يشعر بتفاصيلها الدقيقة وذلك مئنة من وحدانية الرب، جل وعلا، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فأعطى الحيوان ما يلائمة من الملكات، وزاد الإنسان ملكات إضافية لكونه محط التشريف الكوني، والتكليف الشرعي، فكانت آلاته على هذا النحو الدقيق المعجز لتناسب ما خلق من أجله من مراد الرب جل وعلا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير