وأهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حمّاد، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب. وأهل البصرة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية خلف، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب أيضاً. وأهل الكوفة والبصرة مجمعون على تجريح الرجلين في دينهما وخُلُقهما ومروءتهما. وهم مجمعون على أنهما لم يكونا يحفظان الشعر ويحسنان روايته ليس غير، وإنما كانا شاعرين مجيدين يصلان من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يرويان وما ينتحلان.
فأما حماد فيحدّثنا عنه رواية من خيرة الرواة الكوفة هو المُفَضَّل الضّبّيّ أنه قد أفسد الشعر إفساداً لا يصلح بعده أبداً؛ فلما سئل عن سبب ذلك ألحنُ أم خطأ؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردّون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعاينتهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟
ويحدّثنا محمد بن سلاّم أنه دخل على بِلاَل بن أبى بُرْدة بن أبي موسى الأشعري، فقال له بلال: ما أطرفتني شيئاً؛ فغدا عليه حماد فأنشده قصيدة للحطيئة في مدح أبي موسى؛ قال بلال: ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعرف ذلك، وأنا أروي شعر الحطيئة! ولكن دعها تذهب في الناس؛ وقد تركها حماد فذهبت في الناس وهي في ديوان الحطيئة. والرواة انفسهم يختلفون، فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقاً.
وكان يونس بن حبيب يقول: العجب لمن يروي عن حمّاد، كان يكسر ويلحن ويكذب. وثبت كذب حماد في الرواية للمهدي؛ فأمر حاجبه فأعان في الناس أنه يبطل رواية حماد.
وفي الحق أن حمادا كان يسرف في الرواية والتكثر منها. وأخباره في ذلك لا يكاد يصدّقها أحد، فلم يكن يسال عن شيء إلا عرفه. وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروي على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لمن لم يعرفهم من الشعراء. قالوا وأمتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم إمتحانه ثم أجازه.
وأما خلف فكلام الناس في كذبه كثير. وأبن سلام ينبئناً بأنه كان أفرس الناس بيت الشعر. ويتحدّثون أنه وضع لأهل الكوفة ما شاء الله أن يضع لهم، ثم نسك في آخر أيامه فأنبأ أهل الكوفة بما كان قد وضع لهم من الشعر؛ فأبوا تصديقه. وأعترف هو للأصمعي بأنه وضع غير قصيدة. ويزعمون أنه وضع لاميّة العرب على الشَّنْفَرَى، ولاميّة أخرى على تأبَّطَ شراًّ رويت في الحماسة.
وهناك رواية كوفيّ لم يكن أقل حظا من صاحبيه هذين في الكذب والانتحال. كان يجمع شعر القبائل حتى إذا جمع شعر قبيلة كتب مصحفاً بخطه ووضعه في مسجد الكوفة. ويقول خصومه: إنه كان ثقة لولا إسرافه في شرب الخمر، وهو أبو عمرو الشيباني. ويقولون: إنه جمع شعر سبعين قبيلة.
وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع واحدة منها شعراً يضيفه إلى شعرائها. وليس هذا غريباً في تاريخ الأدب، فقد كان مثله كثيراً في تاريخ الأدب اليوناني والروماني.
وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وأبى عمرو الشيباني، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والانتحال ككسب المال والتقرّب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين ونكاية العرب ــــ نقول: إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء.
أخي
ولأن الموضوع يغلب جانب الأدب على الجانب اللغوي أستأذنك في نقل الموضوع إلى قسم الأدب.
ـ[ابن قتيبة]ــــــــ[17 - 07 - 2003, 02:56 م]ـ
أخي الفاضل / الغواص ...
الشعر حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام، فلا يختلف الحكم
بين النقائض وغيرها من أنواع الشعر إذا كانت مبنية
على الكذب والسب والشتم.
والله أعلم.
ـ[الغواص]ــــــــ[17 - 07 - 2003, 09:08 م]ـ
أخواني الأعزاء
بداية أود شكر الزميل الأخ الشعاع على جهده الواضح
ثانيا:
كان أساس الطرح عندي في السؤال الأول ومنطلقه
من كلام سيد المرسلين الوارد في أحد الأحاديث الصحيحة ألا وهو
" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "
انطلاقا من هذا المبأ المحمدي المبارك هل يجوز تناقل النقائض باعتبارها تحمل الكثير من السب والشتم لأعراض الطرفين (جرير والفرزدق)
وهل يمكن أن تكون مدعاة لانتشار هذا الفن
وشكرا