لم يعرف تاريخ الأدب العربي مثالاً لأبي العلاء المعري، في تفرده واعتزازه.
بنفسه .. إذ كان شاعراً مبدعاً، وفيلسوفاً عارفاً، وزاهداً مشتاقاً تواقاً .. أخذ على عاتقه تحطيم أسوار المادة وقيود الشهوات التي كانت تكبل في ذلك الوقت شعراء فحول ومبدعين كثر، فتهبط بهم إلى درك الإزراء والازدراء!
لم يؤثر عن أبي العلاء المعري أن وقف يستجدي أحداً، أو كان من طلاب الحاجات، بل كان معبراً عن كبرياء المبدع، واستعلاء الشاعر، وانفراده واعتزازه بذاته.
وتميّز المعري بوعيه وإدراكه لحقائق الوجود، وزيف الماديات وما ينطوي عليه طِلابها من إهانة للنفس وتدنٍ يقود إلى إذلالها.
التوازن الصعب
كان المعري يعبّر عن كبرياء في تواضع، وإباء في سماحة خلق، واعتزاز في إيثار .. وكان صاحب خيال محلق، يمزق حجب النفس، ويغوص في أعماقها، كاشفاً عن مكنوناتها، حاملاً بيده مطارق يطرق بها الأبواب الموصدة، طارحاً الأسئلة الكبيرة المحيّرة، ليجيب عنها في سلاسة وبساطة، مختصراً مسافات ليقرر مصير الإنسان الهائم مع ماديات الدنيا الفانية، كاشفاً له الحقيقة في أجلى صورها.
وكان هذا المنحى في حياة المعري كفيلاً بأن يطرح سؤالاً دار في خلد كثيرين من أهل زمانه مفاده: هل المعري مفكر يستخدم الشعر، أم شاعر ينتج الفكر؟!
زاد واستعداد
قد كان المعري مدركاً للمصير، لا يترك لنفسه الحبل على الغارب، وإنما هو يعي طول الطريق، وما يلزم المسافر فيه من زاد، وهنا نجد تأثيرات القرآن الكريم والزهد تتجلى في شعر المعري، مضيفة بعداً آخر للمفكر المبدع وهو الإيمان والتقوى .. فهو يقول مخاطباً غيره، قاصداً نفسه:
تقواك زاد فاعتقد أنه
أفضل ما أودعته في السقاء
آهٍ غداً من عرق نازل
ومهجة مولعةٍ بارتقاء
ثوبي محتاج إلى غاسلٍ
وليت قلبي مثله في النقاء
موتٌ يسيرٌ معه رحمة
خير من اليُسْر وطول البقاء
إنه يعرف ما يجب أن يتزود به، لأنه في الحشر سيلجم العرق الأنام، وستشتاق الروح إلى النعيم، ولابد لذلك من ثمن .. وهو ينعي على قلبه رغم ذاك عدم طهره ونقائه وانشغاله بالدنيا، ويتمنى الموت العاجل تحفه رحمة الله، خير له من العيش الطويل مع اليُسر والغنى.
حديث إلى النفس
إن نفس المعري هي أنيسه في محبسه طوال وقته، وهي الأولى بهمس الحديث وصريحه، حين تمضي السنون، وتتوالى الصروف أشكالاً وألواناً، يتقلب المرء في لظاها، ويكتوي بنارها، ويخبر جدواها، فيدرك الحقيقة، التي أولى بنفسه هو أن تدركها .. فيقول مخاطباً نفسه:
أيتها النفس لا تهالي
شرخي قد مرّ واكتهالي
لم يبق إلا شفاً يسيراً
قرّب من موردي نهالي
وابتهال الدهر في أذاتي
وكان في الباطل ابتهالي!
وهو في كل حال مسلّم أمره، ينتظر ورده ودوره في مواكب الراحلين، لأن الحِمام لا يفرق بين كهل وشاب، عظيم أو حقير، صغير أو كبير، فيقول:
رددت إلى مليك الحق أمري
فلم أسأل متى يقع الكسوف
فكم سلم الجهول من المنايا
وعوجل بالحِمام الفيلسوف
لكنه يستعجل المصير ويتمنى لو اقترب، فيعدَّه عيداً، رغم ما يعتري المصير من حساب، ووعد ووعيد:
إن صحّ لي أنني سعيد
فليتني ضمّني صعيد
صُمتُ حياتي إلى مماتي
لعل يوم الحِمام عيد
وراعني للحساب ذكرٌ
وغرّني أنه بعيد
الحقيقة المنتظرة
لقد ظل المعري يهتف بالرحيل من أعماقه، ويعلن الحقيقة واضحة السطوع:
أما الحقيقة فهي أني ذاهب
والله يعلم بالذي أنا لاق
وأظنني من بعدُ لست بذاكرٍ
ماكان من يسرٍ ومن إملاق
ويزري بالدنيا وبمن يأمن لها، وينعي على أهلها إغراقهم في لذاتها، وتكالبهم في طلبها، ناظراً إليها على أنها فخاخ لا يؤمن جانبها، فما تلبث أن تصيد بالحِمام، يخفي ظاهرها الزاهي باطنها الواهي:
دنياك غادرة وإن صادت فتى
بالخلق فهي ذميمة الأخلاق
يستمطر الأغمار من لذاتها
سحباً تليح بمومض ألاق
إنها الحرية المنتظرة التي يتلهف المعري شوقاً إليها، إنها الانعتاق من أوضار الجسد، وأدران المادة، والتحليق في عالم وحب فسيح أبدي لا حدود له:
والروح طائر محْبسٍ في سجنه
حتى يمنُّ رداه بالإطلاق
سيموت محمود ويهلك هالك
ويدوم وجه الواحد الخلاق
رثاء فقيه
¥