حُدوثُ حَوادثٍ منها حريقٌ تَحَيَّفَ ما جَمَعَتُ مِنَ الثَّراء
أُعاني ضَيْعَةً مازلتُ فيها بِحَمْدِ اللهِ قِدْماً في عَناء ([17])
لكن معاناته الكبيرة كانت مع جباة الخراج، فقد كان المسؤول عنه رجلاً ظالماً متسلطاً اسمه (ابن بَسْطام)، لم تأخذه رحمة ولا شفقة بما حل بزرع ابن الرومي وبضيعته، بل طالبه بالخراج واشْتَطَّ في الطلب وجار، فلم يجد ابن الرومي إلا أن يتوجه إلى ممدوحه الوزير عبيد الله بن عبد الله ليسقط عنه خراج تلك الضيعة الفقيرة، وليكفَّ يد ابن بسطام عنه، فاستجاب الوزير له وأسقط عن ضيعته الخراج، وكفَّ يد ابن بسطام عنه، فقال ابن الرومي يشكره:
حَطَّ مِنْ ثِقْلِ الخَراجِ عني وقد كا نَ كأركانِ يَذْبُل وشَمَامِ
وأراني الضِّياعَ مالاً وقد كنـ ـتُ أَرى مُلْكَها كبعضَ الغَرام
كَفَّ مِنْ سَوْرَةِ ابنِ بَسْطَامَ عني وهْي مَشْبُوبَةٌ كَحَرِّ الضِّرامِ
وأراه بنوره حَقَّ مِثْلي وهْو مُذْ كان مُوْقِظُ الأفهام
فقضى حاجتي وكان كَسَيفٍ هُزَّ فاهْتَزَّ وهْو غيرُ كَهَامِ ([18])
وما قاله ابن الرومي عن تسلط جباة الخراج على الناس صحيح تؤيده الأخبار؛ إذ كان هؤلاء الجباة يبالغون في تعذيب المزارعين وأصحاب الضياع ليستخلصوا منهم أموال الخراج، وقد صور ابن المُعْتَزِّ (عبد الله بن محمد 296 هـ) في أرجوزته المشهورة ما كان يفعله هؤلاء الجباة في المزارعين، مِنْ ضَرْبٍ بالسِّياط، وجَرٍّ على الوجوه وهم مقيدون بالأغلال، ومن المبالغة في تعذيبهم كصبِّ الزيت المغلي أو النفط على رؤوسهم، ومن تعليقهم بالجدران من أيديهم وأرجلهم حتى يدفعوا ما عليهم وزيادة، من غير أن يُقَدِّرَ أولئك الجباة الظالمون سوء أحوال المزارعين والكوارث التي لحقت بهم، وأقلّها شُحُّ المطار وغلاءُ الأسعار والآفاتُ التي لحقت زروعهم .. ([19])
ويبلغ هَوَانُ ابن الرومي عند الناس ـ لضعف سلطة العدل والقانون ـ حداً مخزياً عندما تتجرأ عليه امرأة فتسلبه بيته الذي يسكنه، ويدهش ابن الرومي لهذه الجرأة التي تصدر من امرأة من المفترض أن تكون ضلعاً قاصراً ضعيف الأركان والقوى، فيستغيث بممدوحه من آل وهب ليرد له بيته من براثن هذه المرأة الضعيفة القوية ([20]):
أجِرْنْي وزيرَ الدِّينِ والملْكِ إنني إليكَ بحقّي هاربٌ كلَّ مَهْرَبِ
تَوَثَّبَ خَصْمٌ واهِنُ الرُّكْنِ والقُوَى على أَيِّدِ الأركانِ لم يَتَوَثَّب
أريدُ ارتجاع َالدارِ لي كيف خَيَّلَتْ بِحُكْمِ مُمَرٍّ أو بِلُطْفٍ مُسَبَّب
وتا للهِ لا أرضَى برَدِّ ظُلامَتي إلى أن أَرى لي ألفَ عَبْدٍ ومَرْكَب
والعصر العباسي كما هو معلوم عصر امتزاج عرقي بين العرب والأعاجم ولاسيما الفرس والترك الذين استعان بهم الخلفاء العباسيون لتوطيد حكمهم، فبرزت مشكلة كبيرة تتعلق بهذا الامتزاج هي الاعتداد بتلك الأصول على حساب الأصول العربية، والزراية بها والسخرية من معيشة الأعراب، وقد عُرف هؤلاء بالشعوبيين. لكن العرب لم يسكتوا، بل تصدوا للشعوبيين وحاوروهم وحاجُّوهم ودافعوا عن الأصول بين الطرفين. وقد غُمِزَ ابن الرومي في أصله غير العربي، فاهتاج ورَدَّ عن نفسه ضَعَةَ نسبه بأنْ وصل نسبه بملوك الفرس من جهة أمه، وبملوك اليونان من جهة أبيه، من غير أن يتعالى على العرب أو يسخر منهم ومن حضارتهم كما يفعل الشعوبيون. ومن اللافت للنظر أن جميع الأعاجم كانوا يربطون أنسابهم غير العربية بالملوك من الفرس والروم أو اليونان والترك، وهم في الحقيقة ليسوا من أحفاد أولئك الملوك، بل إن معظمهم من عامة الأعاجم، لكن الرغبة في التباهي والتعالي على العرب جعلتهم يزعمون هذا الانتساب، فكل فارسي هو من سلالة كسرى والساسانيين، وكل رومي هو من سلالة قيصر، وكل تركي هو من سلالة خاقان. وليس الأمر كذلك، لكنه الكَيْدُ والتباهي.
من ذلك قول ابن الرومي يباهي بأصله الرومي أو اليوناني كما سماه من جهة أبيه، وبأصله الفارسي الساساني من جهة أمه، مشيراً إلى أنه سيصل إلى الأمجاد التي وصل إليها أجداده:
إنْ لم أَزُرْ مَلِكَاً أُشْجي الخُطوبَ به فلم يَلِدْنيْ أبو الأملاكِ يونانُ
بل إنْ تَعَدَّتْ فلم أُحْسِنُ سِياسَتَها فلم يَلِدْنيْ أبو السُّوَّاسِ ساسان ([21])
¥