تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويبكي ابن الرومي الشباب في قصيدة بديعة قلَّ نظيرها في تاريخ الأدب العربي، من خلال مشهدين رائعين؛ أولهما مشهد الشمس الآفلة التي حان موعد غروبها، فودعت الدنيا والكائنات الحية لتقضي نحبها، بين بكاء تلك الكائنات وحزنها على فراقها، وثانيهما مشهد الطائر الصريع الذي سقط في شباك الصياد فيما كان يبحث عن طعامه وهو وسط جماعته من الطير. يريد ابن الرومي أن يقول في هذه القصيدة البديعة إن الشباب رحل ولن يعود مثلما رحلت تلك الشمس فرحل معها يوم لن يعود مرة أخرى، ومثلما مات ذلك الطائر ولن يعود إلى الحياة، أو إلى حريته وسط أقرانه. وقد افتتح القصيدة بالبكاء على الشباب:

بكيتَ فلم تَتْرُكْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعا زَماناً طَوَى شَرْخَ الشبابِ فوَدَّعا

ثم يبدأ بتوضيح حزنه على فقد الشباب من خلال مشهد الشمس الآفلة، فيقول:

إذا رَنَّقَتْ شَمْسُ الأَصيلِ ونَفَّضَتْ على الأُفقِ الغربيِّ وَرْساً مُذَعْذَعا

ووَدَّعَتِ الدُّنيا لِتقْضِيَ نَحْبَها وشَوَّلَ باقي عُمْرِها فَتَشَعْشَعا

ولاحَظَتِ النُّوَّارَ وهْي مَريضةٌ وقد وضَعَتْ خَدّاً إلى الأرضِ أََضْرَعا

كما لاحظتْ عُوَّادَهُ عَيْنُ مُدْنَفٍ تَوَجَّعَ مِنْ أَوْصابِهِ ما تَوَجَّعا

وظلتْ عُيونُ النُّوْرِ تَخْضَلُّ بالنَّدَى كما اغْرَوْرَقَتْ عينُ الشَّجِيِّ لِتَدْمَعا

يُراعِيْنَها صُوْراً إليها رَوانِياً ويَلْحَظْنَ ألحاظاً مِنَ الشَّجْوِ خُشَّعا

وبَيَّنَ إِغْضاءُ الفِراقِ عليهما كأنهما خِلاّ صَفاءٍ تَوَدَّعا

فهو يرسم منظراً رائعاً للغروب، حيث لم يبق من عمر الشمس إلاَّ القليل، ومال لونها إلى الاصفرار وكأنها أمسكت بيدها ورساً أحمر مصفرّاً ونثرته على الأفق (لون الشمس عند الغروب)، ومضت مودعة الدنيا والكائنات الحية، لكن تلك الكائنات حزنت لفراقها، ولاسيما النوار، تلك الزهرة البيضاء الرقيقة التي آلمها الفراق فانحنت ووضعت خدها على الأرض متضرعة إلى الشمس ألا تغيب، مثلما يتضرع المريض إلى زواره لئلا يتركوه وحيداً مع أحزانه، وكأنه يستمد مِنْ بقائهم الشفاء، وتحول الجو إلى مأتم حقيقي، إذ راحت زهور النوار تبكي بحزن على فراق الشمس، وامتلأت محاجرها بالندى كما تمتلئ عيون الحزين المهموم بالدمع، وظلت هذه الزهور تراقب الشمس وتتجه نحوها مودعةً إياها بألحاظ حزينة خاشعة، وقد ظهرت آثار الفراق على الشمس والنوار وكأنهما خلان متصافيان جمعتهما المودة والمحبة ثم افترقا. وهذا المشهد بديع حقاً، لأن الشاعر لجأ إلى التشخيص وإخراج ما بداخله من مشاعر الحزن العميق على الشباب؛ فقد أقام علاقة إنسانية عفيفة بين الشمس والكائنات الحية ولاسيما النوار، وجعلهما إنسانين يستجيبان للمحبة ويتجرعان غصص الفراق. وفي هذا المشهد يجمع ابن الرومي كل عناصر الحزن والفجيعة على شبابه الراحل؛ من مشاعر حزينة أقامها بين الشمس الراحلة والكائنات الحية ولاسيما النوار، وألوانٍ تجلت في لون الشمس المصفرّ عندما تميل إلى الغروب، وفي لون الورس الأحمر المصفرّ، وفي لون المرض الذي أصاب النوار وذلك المُدْنَف، وفي مفردات الحزن التي حشدها في هذا النص مثل: (ودعت، نَحْبَها، مريضة، أضرعا، عُوَّاده، إغضاء الفراق، تودَّعا)، وكل ما في هذا المشهد حزين؛ وادعٌ، ودموعٌ، وحزنٌ، واصفرارٌ، وتضرُّعٌ، وزاد فيه الشاعر بأن جعل رويَّ القصيدة حرف العيد الممدودة بألف (عا)، وكأنه يصرخ في وادي الحياة بأعلى صوته ليعيد إليه شبابه الراحل، فلا يسمع إلا الصدى. لكن ابن الرومي أبى إلا أن يُظْهِرَ تشاؤمه وتطيره في هذا المشهد؛ فلم يَرَ في رحيل الشمس بدايةً ليوم جديد، وإنما رأى في رحيلها موتاً لها، بل موتاً للكائنات الحية والحياة كلها.

ولم يكتفِ ابن الرومي بهذا المشهد إظهاراً لحزنه على رحيل الشباب، بل عاد من جديد ليؤكد حزنه عليه من خلال مشهد آخر لا يقل روعة عن المشهد الأول، الغاية منه كما الغاية من المشهد الذي سبقه، لكن ابن الرومي لا يقبل بتقديم المعنى فقط، بل يحرص على اعتصاره من كل جوانبه، ويتقصى كل صغيرة وكبيرة فيه حتى لا يترك فيه لغيره من الشعراء شيئاً ([12]):

هنالك تَغدو الطيرُ تَرتادُ مَصْرَعاً وحُسْبانُها المكذوبُ يَرتادُ مَرْتَعا

وجَدَّتْ قِسِيُّ القَوْمِ في الطيرِ جِدَّها فظلتْ سُجوداً للرُّماةِ ورُكَّعا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير