مصداقًا لهذه المقولة .. كما ننوه بأن هذه القصيدة على وزنٍ من أكثر الأوزان شيوعًا عند شعراء الجاهلية وصدر الإسلام وهو بحر البسيط ووزنه (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن) وقد نظم الشهابي هذا الوزن بقوله:"إذا بسطت يدي أدعو على فئةٍ .. لاموا عليك عسى تخلوا أماكنهم .. مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن .. فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم".
2 - قبل أن نتكلم عن تأثير القصيدة، نتكلم عن تأثرها. فإن "بانت سعاد" تمثل نمط القصيدة الجاهلية، كما أنها متأثرة أيضًا بصورة مباشرة بعدد من قصائد الشعراء السابقين والمعاصرين لكعب بن زهير فللأعشى قصيدة يقول مطلعها: بانت سعاد وأمسى حبلها رابا .. وأحدث النأي لي شوقًا وأوصابا. وللنابغة الذبياني قصيدة يقول فيها: بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما .. واحتلت الشرع فالأجزاع من إضما. ولطفيل الغنوي لامية يصف فيها محبوبته "شماء" بصفاتٍ تتطابق مع صفات سعاد كعب حيث يقول:
هل حبل شماء قبل البين موصول .. أم ليس للصرم عن شماء معدول
إذ هي أحوى من الربعي حاجبه .. والعين بالإثمد الحاري مكحول
إن تمسِ قد سمعت قيل الوشاة بنا .. وكل ما نطق الواشون تضليل
فما تجود بموعود فتنجزه .. أم لا فيأسٌ وإعراض وتجميلُ
ولا نريد الاسترسال في هذا الميدان الذي تكثر فيه الشواهد؛ لأن التأثير المتبادل بين شعراء العصر الواحد ظاهرة محسوسة تمليها طبائع الأمور؛ حيث تتشابه البيئة وتشترك التجارب وتفرض الأوزان والقوافي صبغتها على الموضوعات.
3 - "بانت سعاد" تتفرد بين فرائد الشعر العربي بما أحدثته من تأثير على مر العصور. وظهر هذا التأثير في حرص عشرات الشعراء، إما على معارضة القصيدة أو الاستفادة من صورها أو ألفاظها حتى تكونت مكتبة شعرية وافرة وثرية بتأثير قصيدة كعب. ومن أشهر قصائد المدائح النبوية التي عارضت "بانت سعاد" لامية الحميدي التي مطلعها:
بانت سُليمى ففكر الصب مشغول. . وقلبه من لظى الهجران مشغول
ولامية عبد الرحمن بن حسن:
لي في الهوى مذهبٌ ما عنه تحويل .. وما لحبي تغيير وتبديل
ولامية النابلسي:
هل في البروق عن الأحباب تعليل .. لا والذي ماله في الحكم تعليلُ
أما أشهر هذه المعارضات فهي لامية البوصيري التي يقول مطلعها:
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسئول
فقد أشار في قصيدته إلى أنه يعارض بها قصيدة كعب، وأنه وإن وازن بها قوله فإنها لا تعادله في حسنه ولا تناظره، إلا كما تناظر المثاقيل ما يوزن بها من الدر، وهذا معنى جميل لم يسبقه إليه أحد إذ يقول:
لم أنتحلها ولم أغصب معانيها .. وغير مدحك مغصوب ومنحول
وما على قول كعبٍ أن توازنه .. فربما وازن الدرَّ المثاقيلُ
وهل تعادله حسنًا ومنطقها .. عن منطق العرب العرباء معدول
ثم يقول بعد هذه الأبيات: إنه لما كان غرضهما واحدًا -وهو مدح الرسول (ص) - فلا بأس من أن يغلبه كعب، فهو إنما يقفو أثره للبركة التي نالته بسببها؛ حيث استحق بها عفو الممدوح وصان بها دمه:
وحيث كنا معًا نرمي إلى غرضٍ .. فحبذا ناضلٌ منا ومنضولُ
إن أقف آثاره إني الغداة بها .. على طريق نجاحٍ منك مدلولُ
لما غفرت له ذنبًا وصنت دمًا .. لولا ذمامك أضحى وهو مطلولُ
رجوت غفران ذنبٍ موجبٍ تلفي .. له من النفس إملاءٌ وتسويل
4 – هناك أيضًا من هذه الألوان التأثير العلمي في ميدان الأدب والثقافة الإسلامية، ويتمثل في المؤلفات التي خصصت على مر العصور لشرح قصيدة "بانت سعاد" والتي بلغت عددًا كبيرًا تناثرت وتفرقت في مكتبات العالم بين المخطوط والمطبوع، ولم يبق منه سوى الذكر. على أية حال؛ فالمتوافر الآن من هذه الشروح حوالي خمسين، اختلفت في منطلقها ومنظورها إلى القصيدة؛ فمنها الشروح اللغوية مثل شرحِ السكري وشرح الخطيب التبريزي وشرح الأنباري وغيرها ... والشروح النحوية كشرح البغدادي وشرح ابن هشام وغيرهما ... والشروح الأدبية وأهمها شرح السيوطي المسمى "كنه المراد في بيان بانت سعاد" وشرح جمال الدين بن هشام، ثم الشروح التي جنحت إلى النهج الصوفي مثل شرح الشيخ القدسي "الإسعاد في تحقيق بانت سعاد" وكذلك شرح محمد القاري وغيرهما ... ولكم أن تتخيلوا حجم ما أضافته هذه الشروح للمكتبة العربية من مسائل وشواهد وآراء.
¥