أهاجت تلك الشمعة الذكريات في نفس القاضي, حيث رأى كل صفات المحبوبة في شمعته فحمرة الوجنة, وقامتها الغصنية, وسهولة الوصل, وقطاف الثمر بدون شوك, نعم هي تلك محبوبته.
لها غرائب تبدو من محاسنها*****إذا تفكرت يوماً في معانيها
فالوجنة الورد إلا في تناولها*****والقامة الغصن إلا في تثنيها (13)
قد أثمرت وردةً حمراء طالعةً*****تجني على الأكف إن أهويت تجنيها
وردٌ تشابك به الأيدي إذا قطفت*****وما على غصنها شوكٌ يوقيها
صفرٌ غلائلها حمرٌ عمائمها*****سودٌ ذوائبها بيضٌ لياليها
كصعدةٍ في حشا الظلماء طاعنةٍ *****تسقي أسافلها ريا أعاليها
كلوءة الليل مهما أقبلت ظلمٌ*****أمست لها ظلمٌ للصحب تذكيها
لوعته وعذبته بتمنعها وتدللها فلا يمكن نوالها إلا بأن يشعرها بأنها الآمرة وأنها الملكة التي لا يرد لها أمر.
وصيفةٌ لست منها قاضياً وطراً*****إن أنت لم تكسها تاجاً يحلّيها
وعلى الرغم من كونها متدللة متمنعة, إلا أنها إن جد الجد تضحي بنفسها في سبيل الحبيب, مثلما تفعل المرأة الهندية التي تحرق نفسها مع جثة زوجها, لأنه لا بقاء لها بعده ولتكن معه في العالم الآخر.
صفراء هنديّةٌ في اللون إن نعتت*****والقدّ واللين إن أتممت تشبيها
فالهند تقتل بالنيران أنفسها*****وعندها أنّ ذاك القتل يحييها
ما إن تزال تبيت الليل لاهيةً*****وما بها علةٌ في الصدر تظميها
تحيي الليالي نوراً وهي تقتلها*****بئس الجزاء لعمر الله تجزيها
ورهاء لم يبد للأبصار لابسها*****يوماً ولم يحتجب عنهن غاديها
قدٌّ كقدّ قميص قد تبطّنها*****ولم يقدر عليها الثوب كاسيها (14)
غرّاء فرعاء لا تنفكّ فاليةً*****تقص لمتها طوراً وتفليها
حتى وإن شابت فهي مازالت المحبوبة الجميلة التي تزيل الهموم عن القلب حينما تتداعى, حتى وإن كانت تلك الحبيبة معتلة فهي تسعد حبيبها بما تملك.
شيباء شعثاء لا تكسى غدائرها*****لون الشبيبة إلا حين تبليها
قناة ظلماء ما ينفك يأكلها*****سنانها طول طعنٍ أو يشظّيها
مفتوحة العين تفني ليلها سهراً*****نعم وإفناؤها إياه يفنيها
وربما نال من أطرافها مرضٌ*****لم يشف منه بغير القطع مشفيها
ويل امها في ظلام الليل مسعدةً*****إذا الهموم دعت قلبي دواعيها
هل تلك الشمعة مثلي؟ سأل القاضي نفسه, ثم أجابها: نعم هي تشبهني, تماثلني, ولكن ... هي أشجع وأصدق مني فهي تظهر ما بها وتبوح بما داخلها وتعبر عما يدور بباطنها, أما أنا فلخشية الوشاة, ولرهبة الحساد , ولسعي الكارهين لسقطات القول , لا يمكنني البوح بما لدي من حب أو كره.
لولا اختلاف طباعينا بواحدةٍ*****وللطباع اختلافٌ في مبانيها
بأنها في سواد الليل مظهرةٌ*****تلك التي في سواد القلب أخفيها
وبيننا عبراتٌ إن هم نظروا*****غيّضتها خوف واشٍ وهي تجريها
وما بها موهناً لو أنها شكرت*****ما بي من الحرق اللاتي أقاسيها
ما عاندتها الليالي في مطالبها*****ولا عدتها العوادي في مباغيها
ولا رمتها ببعدٍ من أحبتها*****كما رمتني وقربٍ من أعاديها (15)
ولقد ذكرت لك سابقاً أن القاضي ناصح الدين كان يعاني من حساده كثيراً مما جعله يستشعر ظلماً وعدم اعتراف بقدره وعلمه, لذا فمحبوبته أو شمعته على الرغم من اتفاقها معه في بعض الصفات, إلا أنها لا تعاني من الحساد ولا تعاني من شعور الضياع حينما لا تبلغ مقاصدها وغاياتها.
ولا تكابد حساداً أكابدها*****ولا تداجي بني دهرٍ أداجيها (16)
ولا تشكى المطايا طول رحلتها*****ولا لأرجلها طردٌ بأيديها
إلى مقاصد لم تبلغ أدانيها*****مع كثرة السعي فضلاً عن أقاصيها (17)
وتمر بالقاضي لحظة يأس بأنه لا أحد يحمل هم أحد, بل كل إنسان همه نفسه, فالسعيد مبتسم ضاحك, والحزين المهموم يبتلع حزنه وهمه وحده (18).
فليهنها أنها باتت ولا هممي*****ولا همومي تعنيها وتعنيها (19)
أبدت إليّ ابتساماً في خلال بكاً*****وعبرتي أنا محض الحزن يمريها
¥