الهجو والذّمّ إذا منع، فيؤذي النّاس في أموالهم وأعراضهم، ولا خلاف في أنّ من كان على مثل هذه الحالة، فكلّ ما يكتسبه بالشّعر حرام، وكلّ ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحلّ الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه، فإن لم يمكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعاً تعيّن عليه أن يداريه بما استطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحلّ له أن يعطي شيئاً ابتداءً، لأنّ ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد بدّاً من ذلك أعطاه بنيّة وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقةً.
وذكر الحصكفيّ الحنفيّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعطي الشّعراء ولمن يخاف لسانه، ونقل ابن عابدين ما ورد عن عكرمة مرسلاً قال: أتى شاعر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا بلال، اقطع عنّي لسانه فأعطاه أربعين درهماً».
وقال عديّ بن أرطاة لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المومنين، إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكلّ مسلم، قال: ومن مدحه؟ قال: عبّاس بن مرداس السّلميّ فكساه حلّةً قطع بها لسانه.
أمّا الشّاعر الّذي يؤمن شرّه، ولا يعطى مداراةً له وقطعاً للسانه، فالظّاهر أنّ ما يدفع إليه حلال، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دفع بردته إلى كعب بن زهير رضي الله عنه لمّا امتدحه بقصيدته المشهورة.
ولمّا استخلف عمر بن عبد العزيز وفد عليه الشّعراء كما كانوا يفدون على الخلفاء قبله، فأقاموا ببابه أيّاماً لا يأذن لهم بالدّخول، حتّى قدم عديّ بن أرطاة وكانت له مكانة، فتعرّض له جرير وطلب شفاعته، فاستأذن لهم، فلم يأذن إلاّ لجرير، فلمّا مثل بين يديه قال له: اتّق اللّه ولا تقل إلاّ حقّاً، فمدحه بأبيات، فقال عمر: يا جرير، لقد ولّيت هذا الأمر وما أملك إلاّ ثلاثمائة، فمائة أخذها عبد اللّه، ومائة أخذتها أمّ عبد اللّه، يا غلام: أعطه المائة الثّالثة، فقال: واللّه يا أمير المؤمنين، إنّها لأحبّ مال كسبته إليّ.
«حادي عشر: شهادة الشّاعر»
23 - ذهب الفقهاء إلى قبول شهادة الشّاعر الّذي لا يرتكب بشعره محرّماً أو ما يخلّ بالمروءة، فإن ارتكب ذلك ففي ردّ شهادته به تفصيل:
قال الحنفيّة: من كثر إنشاده وإنشاؤه حين تنزل به مهمّاته ويجعله مكسبةً له تنقض مروءته وتردّ شهادته.
وقال المالكيّة: تجوز شهادة الشّاعر إذا كان لا يرتكب بشعره محرّماً، وإلاّ امتنعت شهادته. وقال الشّافعيّة: تردّ شهادة الشّاعر إذا هجا معصوم الدّم - مسلماً أو ذمّيّاً - بما يفسق به، بخلاف الحربيّ فلا يحرم هجاؤه، ولا تردّ شهادة الشّاعر بهجائه، لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه بهجاء الكفّار».
وظاهر كلامهم جواز هجو الكافر المعيّن، وعليه فيفارق عدم جواز لعنه بأنّ اللّعن الإبعاد من الخير، ولاعِنه لا يتحقّق بعده منه فقد يختم له بخير.
وقالوا: تردّ شهادة الشّاعر كذلك إذا شبّب بامرأة معيّنة بأن ذكر صفاتها من نحو حسن وطول وغير ذلك، لما فيه من الإيذاء، وكذلك إذا هتك السّتر ووصف أعضاءها الباطنة بما حقّه الإخفاء ولو كان من حليلته، ومثل المرأة في ذلك الأمرد إذا صرّح بعشقه، فإذا لم يعيّن الشّاعر من يشبّب به فلا إثم عليه لأنّ التّشبيب صنعة، وغرض الشّاعر تحسين صنعته لا تحقيق المذكور فيه، فليس ذكر شخص مجهول تعييناً، لكنّ بعض الشّعراء قد ينصبون قرائن تدلّ على تعيين المشبّب به، وعندئذ يكون التّشبيب مع هذه القرائن في حكم التّشبيب بمعيّن.
وتردّ شهادة الشّاعر كذلك عند الشّافعيّة إن أكثر الكذب في شعره، وجاوز في ذلك الحدّ بحيث لا يمكن حمله على المبالغة.
وقال الحنابلة: الشّاعر متى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب أو يقذف مسلماً أو مسلمةً فإنّ شهادته تردّ، وسواء قذف بنفسه أو بغيره.أهـ
ـ[عز الدين القسام]ــــــــ[01 - 06 - 2008, 10:18 م]ـ
موضوع مهم يستحق الاحترام ولا غبار عليه .....
شكرا جزيلا لكم على حسن الاختيار والإفادة ..
بوركتم.
ـ[أبو سهيل]ــــــــ[02 - 06 - 2008, 02:01 ص]ـ
أحسن الله إليك أستاذي الفاضل رعد أزرق