وقد نتج عن هذا أنهم منذ مائة عام لا يعالجون المرض، وإنما يعالجون الأعراض، وكانت النتيجة قريبة من تلك التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل، فلا يهتم بمكافحة الجراثيم، وإنما يهتم بهيجان الحمى عند المريض.
والمريض نفسه يريد - ومنذ مائة عام - أن يبرأ من آلام كثيرة: من الاستعمار ونتائجه، من الأمية بأشكالها، من الفقر رغم غنى البلاد بالمادة الأولية، من الظلم والقهر والاستعباد، من ومن، ومن، وهو لا يعرف حقيقة مرضه ولم يحاول أن يعرفه، بل كل ما في الأمر أنه شعر بالألم، ولا يزال الألم يشتد، فجرى نحو الصيدلية، يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام.
وليس في الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة المرضية، فإما القضاء على المرض وإما إعدام المريض. لكن هناك من له مصلحة في استمرار هذه الحالة المرضية سواءً أكان ممن هم في الخارج أو ممن يمثلونهم في الداخل.
لقد دخل المريض إلى صيدلية الحضارة الغربية طالباً الشفاء، ولكن من أي مرض؟ وبأي دواء؟ وبدهي أننا لا نعرف شيئاً عن مدة علاج كهذا، ولكن الحالة التي تطرد هكذا تحت أنظارنا منذ نصف قرن، لها دلالة اجتماعية يجب أن تكون موضع تأمل وتحليل. وفي الوقت الذي نقوم به بهذا التحليل يمكننا أن نفهم المعنى الواقعي لتلك الحقبة التاريخية التي نحياها، ويمكننا أيضاً أن نفهم التعديل الذي ينبغي أن يضاف إليها.
إن مشكلة النهضة تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت، فلكي نقيم بناء نهضة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها.
أولاً: مشكلة الإنسان ...
ثانياً: مشكلة التراب ...
ثالثاً: مشكلة الوقت ...
1ً- الإنسان:
إن المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان، ثم بتعليمه الإنخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد البناء.
وتبدأ عملية التطور من الإنسان لأنه المخلوق الوحيد القادر على قيادة حركة البناء، وتحقيق قفزات
نوعية، تمهيداً لظهور الحضارة. أما المادة فمهما يكن من أمرها تكديساً وزيادة، فإنها تبقى تجميع كمي لا يعطي معنى كيفياً نوعياً، إلا بسلامة استخدام الإنسان له.
فلكي يتحقق التغير في محيطنا يجب أن يتحقق أولاً في أنفسنا وإلا فإن العربي لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين، ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير، والتغيير يقتضي تغيير ما في النفوس أولاً ... لقوله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (سورة الرعد، الآية: 11)، وعندها يجب على العربي أن يحقق بمفرده شروطاً ثلاثة:
1 - أن يعرف نفسه.
2 - أن يعرف الآخرين، وأن لا يتعالى عليهم وأن لا يتجاهلهم
3 - ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرف الآخرين بنفسه ولكن بالصورة المحببة، بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للاستعمار والتخلف وأصناف التقهقر
فالإنسان هو الهدف وهو نقطة البدء في التغيير والبناء، ومهما جرت محاولات تحديثية بوساطة
الإستعارة، أو الشراء للمصنوعات ومنتجات التقنية، فإن هذه المحاولات ستكون عقيمة، طالما أنها لم تبدأ من حيث يجب، فالحل الوحيد منوط بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ، والغني بأفكاره على حساب اشيائه
إن العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية فهذه تعتبر خطراً في مجتمع مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم أو يتجاهلونها ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده، أشق كثيراً من صنع محرك أو تقنية متطورة، ومما يؤسف له ان حملة الشهادات العليا في هذه الاختصاصات هم الأكثر عدداً في البلدان المتخلفة لكنهم لم يكونوا إلا حملة أوراق يذكر فيها اختصاصهم النظري، فصاروا عبئاً ثقيلاً على مسيرة التنمية والإصلاح، فهم القادة في المجتمعات المتخلفة على الرغم من عجزهم عن حل أبسط المشكلات بطريقة علمية عملية، وإلا لما تخلف مشروع النهضة حتى الوقت الحاضر، ونحن بحاجة إلى دروس في منهجية العمل في سائر مستويات عملنا.
فلتبدأ المنهجية اولاً في مستوى الحديث المجرد، لأن كل عمل اجتماعي يقتضي تبادل أفكار بين عدد من الاشخاص.
¥